الصورة وتشكيل الوعى (القبعة والقيد)
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 17 ديسمبر 2010 - 8:38 م
بتوقيت القاهرة
طفل فى حفاضة ليس على جسمه الصغير غيرها، له شعر كستنائى مجعد وعينان لامعتان.. يقف متطلعا أمامه وعلى وجهه الذى ما يزال بريئا ابتسامة غير مؤكدة. يدا الطفل متشابكتان على صدره، ربما عقدهما على هذا الوضع أثناء إعداد العدسة منتظرا أن ينتهى المصور من العمل ويعلن نجاح الصورة.
الصورة كبيرة الحجم مثبتة، حيث رأيتها على أحد حوائط استوديو شهير فى القاهرة. حولها عشرات الصور لزبائن المكان. صور شخصية وعائلية لصغار وكبار.. نساء ورجال وأطفال، أفراح وأعياد ميلاد ومناسبات عديدة، لكن تلك الصورة دون كل ما يحيط بها تخطف العين والعقل وتجعل المرء يقف متحيرا بين أن يتبسم لحلاوة الطفل وأن يعبس ويتأسى لحاله.
الطفل أو «الرضيع» إن شئنا الدقة، لا يتجاوز عمره سنة واحدة، يقف عاريا كما هى العادة فى صور الصغار، لكنه فى صورته تلك يحظى بشيئين مختلفين يتنافران مع حفاضته الملونة: فوق رأسه قبعة بيضاء كبيرة عليها نسر، وفى يده اليمنى أصفاد كتلك التى تُستَخدَم لتقييد المتهمين والمجرمين. لا يمسك الرضيع بأصفاده لكنها مغلقة عليه، تطوق معصمه من أحد طرفيها والطرف الآخر مُعَلَّق فى الهواء.
تنقل الصورة الفوتوجرافية إلينا الكثير. هى بمثابة خبر قائم بذاته، تغنى عن كلمات وعبارات ومقالات كاملة. تلخصها فى لقطة واحدة، وتحقق الهدف أسرع من أى مؤثر بصرى آخر بل من أى مؤثر مسموع. إذا طالعت الجريدة ستقفز عيناك إلى الصورة أولا ثم قد تقرأ النص أو لا تقرأه. تعطى الصورة معلومة مباشرة وهى أيضا تسلط الضوء على ما يختبئ وراءها: على معناها الكامن، على من التقطها واختار الزاوية والخلفية والوضع، من وجه العدسة ومن تدخل فى الابتسامة والنظرة وحتى الملابس. الصورة لا تعطى فكرة عن صاحبها فقط بل عما حوله من أحداث وأشخاص.
منذ فترة ربما تكون قد انقضت، كانت الصورة الفوتوجرافية تحتوى على أشياء مبهجة بسيطة تحيط بالطفل، تهتم العائلة بإحضارها ويستخدمها المصور عند التقاط الصورة. عرائس على شكل حيوانات أليفة، كرات ملونة، شخصيات كرتونية مشهورة، فى بعض الأحيان يذهب الطفل إلى استوديو التصوير متنكرا فى هيئة شخصية مُحَبَّبَة إليه أو يرسم وجهه بالألوان.
أعترف أننى حتى وإن كنت قد رأيت كثيراُ من الأطفال يرتدون بذلة الضابط ويرفعون أيديهم بالتحية عند التصوير، لكنى أبدا لم أصادف رضيعا عاريا يده مُقَيَّدة فى (كلابشات)، ورأسه غارق فى قبعة ضابط.
صورة مبتكرة لكنها صادمة، ترى هل تعكس حقيقة الأشياء التى توطنت فينا؟ هل تكشف ببساطة أننا ما عدنا نرى الجمال والبراءة، وأن وعينا قد أعيد تشكيله بحيث صار القيد بمثابة حلية نزدان بها سعداء راضين؟
شرحت الصورة بإيجاز كيف نتغير دون أن ندرى رغما عن إرادتنا، وكيف تختلط لدينا المفاهيم بحيث لا نعود قادرين على التمييز بينها. تمتزج البراءة بالشراسة والسلطة ويذوب الجيد فى الردىء. تتسرب إلى داخلنا قيما جديدة نتصرف من منطلقها دون تريث أو تفكير. ربما لو احتلت تلك الصورة مكانها على الحائط فى ظرف آخر وسياق آخر لما أثارت الانتباه، لكنها مست وترا صار مشدودا عن آخره. نضحت بما صار إليه وعى المجتمع وما ترسب داخله. ترسخت فى أحشائه القيود.. القمع والقهر واستلاب الحرية.. نموذج بائس لم يفلت منه حتى الأطفال. وضعت علامات واضحة على الطريق، أظهرت أن ما اختزناه فى الذاكرة على مدى سنوات طويلة هو محض كبت ومعاناة، أن أحلامنا صارت مشوهة، نسير وراءها، نتمثلها ونوجد منها كل يوم المزيد.
تقول الصورة الحديثة لعام 2010 والتى ربما مر عليها الكثيرون دون أن تستوقفهم: يُولَد الطفل لدينا فنلفه فى الحفاضة ونجرده من ملابسه، نرضعه قهرا ثم نضع فى يديه القيود ونرغمه على الابتسام ونسجل كل ذلك ونعلنه على الملأ. تقول الصورة الحديثة أننا نتباهى بما نفعل ولا ندرك أننا إنما قد وقعنا أسرى للواقع المزعج وأننا ننقله مضاعفا إلى بيوتنا وأطفالنا، نورثه للقادمين دون خيارات ليسيروا على ذات الدرب.
الفوتوجرافيا مؤثر بصرى صادق إلى حد كبير، ينقل الواقع كما هو. يضبط اللحظة التى قد تهرب دون عودة، ويحتفظ بها رغم أنف الزمن. ترى هل تتغير الصورة فى القريب؟