نبوءات رضوى عاشور وتدهور الجامعة
صبرى حافظ
آخر تحديث:
الجمعة 17 ديسمبر 2010 - 11:40 ص
بتوقيت القاهرة
لا تكشف الروايات المتميزة أغوار الواقع فحسب، ولكنها تستشرف مستقبله. فمن قرأ روايات نجيب محفوظ فى الستينيات يجد أنها تنبأت بهزيمة 1967 قبل وقوعها.
ومن قرأ رواية رضوى عاشور الجميلة (أطياف) يجد أنها قد تنبأت قبل أكثر من عشر سنوات بالانهيارات التى تعانى منها الجامعة اليوم. وبالفضائح المخزية التى يرتكبها رئيسها
والواقع أننى ما إن انتهيت من قراءة هذه الرواية حتى هالتنى الصورة الرهيبة التى خرجت بها منها، والتى أرهفت بنية الرواية السردية مصداقيتها، وضاعفت وقع صدمتها علىّ.
فقد استطاعت بنيتها التى يتراوح فيها السرد بين فصول السيرة الذاتية لرضوى عاشور الكاتبة، وبين فصول السرد الروائى الذى يمزج التاريخى بالواقعى والوثائقى بالمحكى، أن تضاعف وقع هذه الصدمة، لأنها تستخدم بنية الذوات السردية المتراسلة تلك فى تعميق أثر الصدمة وتأكيد مصداقيتها.
فما هى الصورة التى يخرج بها قارئ هذه الرواية عما يدور فى الجامعات المصرية؟
توزع الرواية أمشاج الصورة التى تبلورها للجامعة المصرية على جانبى الخطاب السردى فيها، لأننا نتعرف على قسم كبير منها من خلال سيرة الكاتبة الذاتية والتى تتسم بقدر من الوثائقية، بينما نتعرف على القسم الآخر من خلال الصوت السردى الذى يحكى لنا ما دار لقرينتها الدكتورة «شجر».
فقد درست «شجر» فى قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، والذى يقع فى الطابق الثانى من نفس المبنى الذى يقع بطابقه الأول قسم اللغة الانجليزية الذى درست به «رضوى» فى نفس الجامعة فى الفترة بين 1963 و1967.
وتبدأ الرواية بتقديم أول أجزاء هذه الصورة من خلال المقابلة التى يستدعى فيها رئيس الجامعة «شجر» لتوبيخها لأنها التحقت باعتصام الطلبة عام 1971، وكأن الرواية تتنبأ قبل عشر سنوات بما يجرى الآن للدكتورة رضوى عاشور، وبطلب رئيس الجامعة لها، بعدما أحالها للتحقيق، كى ينقذ ماء وجهه لو قابلته، ويقول إنها جاءت للاعتذار، فقد اعتادوا الكذب.
بعدما أرجأ توقيعه على طلب إجازتها المرضية كى يستخدمه، بأساليب الضغط الرخيصة، وسياسة العصا والجزرة الركيكة، فى الضغط عليها.
ولنعد إلى الرواية النبوءة لأنها تحكى لنا ما فوتته رضوى عاشور على رئيس جامعتها الغريب، حيث يهدد رئيس الجامعة فى الرواية الدكتورة شجر لأن قوات الأمن قبضت عليها فجر الاثنين 24 يناير عام 1972 ضمن الطلاب المعتصمين. فواجبها كمدرس مساعد للتاريخ الحديث، أن تكون فى قلب الحدث التاريخى، تسجل هتافاته، وتتابع تطوره.
لكن رئيس الجامعة يهددها: «بإمكانى فصلك من الجامعة» (ص48). ويتوقع منها أن تعتذر، ولا تعتذر. وهكذا نعرف أن الجامعة التى كانت مصدر الوعى السياسى، وقدمت رتلا من الشهداء الذين راحوا وقودا للحركة الوطنية المصرية من محمد عزت البيومى ومحمد عبدالمجيد مرسى إلى عبدالحكم الجراحى وحتى خالد عبدالعزيز الوقاد، أصبح على رأسها الآن موظف عيَّنه الأمن كى يوبخ الأستاذ الذى يهتم بأمور وطنه، ويهدده بالفصل.
وبعد صفحات قلائل نتعرف على مشهد آخر يكشف لنا صدوع مؤسسة الجامعة، حينما تواجه «الدكتورة شجر» بعض تجليات فساد الجامعة، وتلاحظ أن طالبا لم تره أبدا فى محاضراتها، يجلس فى قاعة الامتحان، يدخن ويسلم ورقة الإجابة خالية تماما، وعندما تسأل طالبة عنه، تقول إنه أول الدفعة، وبعدما تتسلم أوراق الإجابة فى نهاية الامتحان، وتعدها تجد عددها مطابقا لعدد الطلاب، ولكن لا تجد بينها الورقة البيضاء، وإنما تكتشف أنها استبدلت بكراسة إجابة بها كل الإجابات النموذجية على الامتحان، حتى تكفل له الأولوية على دفعته. وتبلغ النيابة بالواقعة، ويتم ضبط الواقعة وهى تتكرر فى اليوم التالى، ويبدأ التحقيق الذى لا يجر عليها إلا المشاكل لتورط الكثيرين فى الأمر.
ويعلل زميلها يوسف الأمر بطريقته «ليست الجامعة خارج المجتمع. ما يحدث فيه يحدث فيها» (ص98) ليوسع هذا التعليق من أفق دلالة هذا الحدث المزرى، ليصبح مرآة للفساد الاجتماعى كله.
ثم تتراكم بعد ذلك الوقائع الدامية، فنتعرف عرضا على واقعة أخرى تحكيها لنا هذه المرة «رضوى عاشور» عما جرى لها عندما تخرجت من قسم اللغة الانجليزية بجامعة القاهرة بتفوق، ولم تعين به «لأن رئيس القسم أنذاك، الدكتور رشاد رشدى، قال لا أريد هذه البنت» (ص127). وكأن الجامعة قد أصبحت عزبة خاصة تدار حسب الأهواء الشخصية لبعض رؤساء الأقسام ذوى النفوذ السياسى الذين يفضلون تعيين حاملى شنطهم من الإمّعات، على النابهين من الطلاب الذين يعتزون بكرامتهم.
ويعرف المثقفون من أبناء جيلى تلاميذ رشاد رشدى الذين كانوا يحملون حقيبته، ويرددون أفكاره ببغائية، وأصبحوا من أقطاب نظام التردى والفساد فيما بعد.
ثم تحكى لنا الرواية بعد ذلك واقعة المغسلة حينما دخلت البطلة إلى جامعتها ذات صباح لتجد مغسلة، وتعرف أن العميد قد أجَّر مدخل الكلية، ويتعلل حينما تواجهه برفضها للأمر أنه أراد زيادة دخل الكلية، ويصم أذنيه عن اعتراضها بأن الجامعة ليس بها أماكن للطلاب أنفسهم، وليس فيها كافيتيريا للطلاب ولا للأساتذة، والمكتبة مخزن كتب وليست مكتبة.
فقد بدلت آليات الشره الانفتاحى أولويات الجميع، بمن فيهم عميد الكلية الذى لا يستطيع الدفاع عن منطقه المتهافت عندما قرر مجلس الكلية فى ممارسة ديمقراطية نادرة إزالة المغسلة، فانصاع العميد للقرار.
ومع أن هذه الواقعة انتهت نهاية إيجابية، إلا أنها كشفت عن أن القيادات الجامعية كلها قد أصبحت من نوع رئيس الجامعة الذى هدد «شجر» بالفصل، أو رئيس القسم الذى حرم «رضوى» من التعيين فى قسمه لأنه لا يريد هذه البنت، أو الاستاذ الذى باع الامتحان والإجابة النموذجية عليه لابن صاحب النفوذ والثروة.
ونعود من جديد إلى «شجر» وهى تروى لنا حكاية تشابه كبير فى أوراق الإجابة، واستوقفها تكرار جملة وردت فى سطرين متعاقبين، ووجدت التكرار يؤكد حالة غش جماعى، فتقرر أن تواجههم، وتتحدث عن الإلهة «ماعت» إلهة الحق والعدالة، ويبدأ الأولاد فى الرد عليها تباعا، ويالهول ما تنطوى عليه ردودهم.
فقد أصبح الغش هو المؤسسة القوية والمسيطرة، لذلك تردد مع هاملت: هناك «شىء عفن فى الدنمارك»! ويبلغ هذا العفن ذروته التى تزكم رائحتها الأنوف فى واقعة رسالة الدكتوراه، ولكن قبل هذه الواقعة، التى تجسد ذروة العفن والفساد، تقدم لنا الرواية واقعة «خليل» الشاب النابه أول دفعته، والذى وقع فى أسر الجماعات الإسلامية.
إذ يناقش مجلس القسم حيثيات تعيينه ويميل الكثيرون إلى رفضه لميوله الإسلامية، وتقف «شجر» وهى المعروفة بيساريتها والتى سجنت مع من سجنهم السادات من أساتذة الجامعة عام 1981 مع حقه فى التعيين، وعندما تمر السنوات، ويتغير خليل تواجهه شجر، التى ما زال يحترمها ويشعر بالخجل أمامها، ولكنه يقول لها: «أنت اخترت أن تكونى جميلة ومهزومة.
أنا فكرت طويلا ثم قررت أننى لا أريد أن أكون مهزوما أو ملاحقا. ردت: الطريق الأسهل والأقبح! فقال: لا أريد أن أكون كجمال حمدان يعيش معزولا ومكتئبا ويموت قبل الأوان.
أيهما أفضل يادكتورة شجر، أن يكون جمال حمدان رئيسا للجامعة، أم تكتشف جثته بعد أيام؟ فترد عليه: عليك أن تختار أن تكون رئيسا للجامعة، أو تكون جمال حمدان.
لا توهم نفسك بالجمع بين الأمرين» (ص247) وكأنها كانت تتنبأ بكل الجدل الذى يزعم فيه كلاب الحراسة أنهم تجاوزوا طه حسين، وترد عليه: فليس ممكنا فى هذا الواقع المترع بالفساد والعفن أن يكون أمثال جمال حمدان رؤساء للجامعة. فالرواية تطرح سؤال المثقف! إما أن يكون مثقفا مستقلا يدفع ثمن مواقفه، وإما أن يكون مثقفا تابعا، أى كلبا للحراسة؟
وقد اختارت رضوى عاشور فى الرواية والواقع معا أن تكون مثقفا مستقلا يدفع ثمن مواقفه، حتى لو حولها رئيس جامعتها للتحقيق! لقد نخر الفساد الجامعة حتى النخاع كما كشفت روايتها.
فالرواية تخبرنا كيف تشكلت لجنة لمناقشة رسالة دكتوراة، ووصلت الرسالة للممتحنين الخارجيين، وقالا للمشرف كلاهما وليس واحدا منهما فقط إن الرسالة لا تصلح. قالا له ذلك شفهيا تقديرا للزمالة ومنعا للإحراج. «وبدلا من أن يعيد المشرف الرسالة للطالب، ويطلب منه تعديلها، يأتى إلى مجلس القسم، ويقول إن الأستاذين اعتذرا لانشغالهما، ويشكل لجنة جديدة تقبل الرسالة وتناقشها، وتمنحها مرتبة الشرف الأولى.
هل يعقل هذا؟» (ص249). ويتدخل رئيس القسم المعنى، وتدور مناقشة مذهلة تنتهى بتصويت المجلس، فيرفض سبعة من ثلاثين اعتماد النتيجة، ويصدق المجلس على حصول الطالب على الدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى.
ويصاب أحد الأساتذة الذين عارضوا التصديق، ورأوا فيه هدما لكل القيم التى تنهض عليها الجامعة بجلطة تودى بحياته فى الليلة ذاتها. وعندما تردد الدكتورة شجر التى رأت الجامعة برمتها فى النعش الذى حمل الدكتور «يوسف» أن مجلس القسم قتل الدكتور يوسف، يوبخها العميد، فينتهى الأمر بها إلى تقديم استقالتها، ليخرج من الجامعة آخر الأصوات الشريفة النظيفة التى ما عادت تحتمل بعدما طفح بها الكيل.
لقد شيعت الجامعة بالفعل فى نعش آخر الأصوات التى أرادت الحفاظ على شرفها، وعلى ما تمثله من قيم. بعدما أصبح الجهل والظلم والفساد القانون المطلق للوجود فى هذا الواقع العفن. لأن ما تقدمه هذه الرواية الجميلة بشأن الجامعة المصرية كمؤسسة علمية، لأمر بالغ الخطورة، يحتاج منا إلى المزيد من الدرس والتأمل، لأن الجامعة هى المعقل الأخير للعقل والأمل الذى ما إن ينهار ــ ويبدو أنه قد انهار بالفعل ــ حتى يصبح من العسير على المجتمع كله أن ينهض من عثرته التى طالت، ويبدو أنها ستدوم، ما لم نتحرك!