مسئولية الدولة عن تفجير البطرسية
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 17 ديسمبر 2016 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
اختلطت مشاعر الحزن بالغضب بالتنديد بالتقصير الفادح للأمن فى الاضطلاع بمسئولياته فى ردود فعل الرأى العام على تفجير المصليات والمصلين الخاشعين فى الكنيسة البطرسية أثناء قداس يوم الجمعة 9 ديسمبر. اتجاه فى الرأى ساد فى الصحافة المسماة بالقومية وفى كل البرامج التلفزيونية تقريبا ركز على جبن الجريمة، وعلى خساسة الإرهاب وعدم تورعه عن ارتكاب أبشع الفظائع ضد المواطنين، وعلى اعتدائه المستمر على الدولة. هذا الاتجاه اهتم أيضا بإبراز إسراع الدولة على أعلى مستوياتها إلى تكريم من استشهد فى التفجير والعناية بضحاياه من الجرحى، وإلى الكشف عن مرتكبى الجريمة، وإلى إعادة التأكيد على متانة الوحدة الوطنية.
اتجاه ثان فى الرأى نظر إلى الجريمة فى إطار فكرى أوسع. هذا الاتجاه شدد على أن هناك تيارا عالى الصوت، ذا نفوذ وإمكانيات، هو التيار السلفى، لا يكف عن بث البغضاء ودعوة من يستمعون إلى الناطقين باسمه إلى كراهية الملايين من المصريين، هم الأقباط، وازدراء دينهم، والعجب هو أن هذه الدعوة مصحوبة بزعم السمو الأخلاقى لمن يمارس الكراهية والازدراء! أصحاب هذا الاتجاه الثانى فى الرأى يعتبرون، ومعهم كل الحق فى ذلك، أن دعوات البغض والكراهية والازدراء تهيئ البيئة التى تفرز الإرهابيين، وهم يطالبون بإغلاق المجال المفتوح على مصراعيه أمام التيار السلفى والذى يهدد بخطابه التكامل الوطنى المصرى وسلامة الوطن، فى ظل تجاهل من أولئك الذين لا يكفون ليل نهار عن التشدق بضرورة صيانة «الأمن القومى». هذه المطالبة تعنى ضمنا أن على الدولة مسئولية عن فظيعةِ الكنيسة البطرسية، مسئوليةٌ هى تتغافل عنها ولا تضطلع بها.
إلا أن ثمة اتجاها ثالثا فى الرأى يذهب إلى أبعد من ذلك فى تفسير المسئولية عن تفجير الكنيسة البطرسية والجرائم الطائفية المتكاثرة فى العقود الأخيرة، بل وعن انتشار كل دعاوى الفرقة والتمييز والانقسام والكراهية. لدى أصحاب هذا الرأى، المسئولية هى مسئولية الدولة، ليس فقط لقصورها الأمنى وبسكوتها عن جريمة هى خطاب الكراهية، وإنما بمحاربتها المستمرة منذ عشرات السنين للتنوع والاختلاف والتعدد فى النظام السياسى.
العنف لا بد أن يصحب أى رفض للتنوع والاختلاف والتعدد فى النظام السياسى وأن يكون مصاحبا له. التنوع والاختلاف والتعدد موجودون فى المجتمع، فإن أنت أردت أن يكون النظام السياسى كتلة واحدة مصمتة، تحت دعاوى تجميع القوى وعدم التبذير فى أى جهد، فسيظهر آخرون يحاكونك ويعملون على القضاء على التعدد والتنوع الموجودين فى المجتمع. قد يقتصر هدف الدولة فى الأصل على القضاء على التنوع والاختلاف والتعدد السياسيين، ولكنها وهى تفعل ذلك تهيئ المناخ لمن يتصورون مجتمعا يكون هو الآخر كتلة مصمتة. وكما أن الدولة نجحت بمجرد امتلاكها لأدوات العنف المشروع، وأحيانا بممارستها الفعلية للعنف، مشروعا أو غير مشروع، فى جعل النظام السياسى كتلة مصمتة، فإن الراغبين فى القضاء على التنوع والتعدد فى المجتمع سيمارسون العنف لتحقيق مرادهم، ولأن هذا المراد مناف للواقع ولطبيعة تجمعات البشر، فإنهم سيزيدون من جرعات العنف وأشكاله حتى تعم الفرقة ويتفسخ المجتمع. وإن كانت الدولة قد نجحت فى جعل النظام السياسى المؤسسى كتلة مصمتة بدعاوى التوحد «للحفاظ على الأمن القومى» أو للإسراع بتحقيق التنمية، التى لا تتحقق، فإن دعاة جعل المجتمع كتلة مصمتة يقدمون حججا ينسبونها إلى الدين ويتصورون أنهم يمنحونها بذلك سموا أخلاقيا بينما هى فى حقيقتها الدنو الأخلاقى ذاته.
***
أى مجتمع هذا عرفه تاريخ البشر كان كل من فيه من عرق واحد، وعلى دين واحد، وعلى رأى سياسى واحد، وذا مصلحة اقتصادية واحدة؟ تصور مثل هذا المجتمع ضربا من الهذيان. ولأنه لا يمكن أن يتحقق مثل هذا المجتمع بشكل سلمى فى الواقع، فإن من يهذى به يلجأ إلى العنف لتحقيقه. ولأن الأمر يتعلق بالدين تحديدا، فلنتساءل، بافتراض تحقق الوحدة الدينية، فماذا عن الاختلافات العنصرية والعرقية واللغوية، بل وماذا عن التفسيرات المختلفة لنفس النص الدينى. عند «أهل السنة والجماعة»، كما يحلو للسلفيين أن يتميزوا عن غيرهم من المسلمين، ماذا هم فاعلون بالتفسيرات المختلفة لأبى حنيفة، والشافعى، وابن مالك، وابن حنبل؟ هل يعبئون الناس غدا ضد متبعى هذا المذهب أو ذاك لأنهم يرون فيه خروجا على «صحيح الدين» كما يروق لهم؟
فى مصر، رفض التنوع والاختلاف سياسيا ودينيا متلازمان. الوجود الرمزى وشبه الشكلى، مع استثناءات لا ريب فيها، للمواطنين الأقباط فى مؤسسات النظام السياسى التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وفى المواقع الأساسية للجهاز الإدارى للدولة يضفى «شرعية» على ملاحقتهم فى المجتمع وازدراء عقيدتهم والتمييز ضدهم بل، والصراحة صارت واجبة تماما الآن، لاضطهادهم أحيانا كما نرى فى قرى تحرق فيها كنائسهم، ويمنعون من الصلاة فى غيرها، حتى يطردوا من هذه القرى بمباركة ممثلين للدولة التى يشح حضورهم فيها.
سبقت الدعوة فى هذه المساحة إلى صياغة سياسة لتحقيق المساواة الفعلية بين المواطنين فى جميع المجالات على أن تكون هذه السياسة أفقية تشمل إجراءات فى كل من السياسات الكلية والقطاعية. غير أن حتى ذلك ليس كافيا، بل إنه فكرة قد لا تقبلها بسهولة دولة تضيق بالتنوع، وتحارب التعدد حربا منظمة وممنهجة منذ عشرات السنين، بل إنه فكرة قد تجد فيها الدولة تناقضا مع نظامها السياسى ومع المنطق الذى يقوم عليه هذا النظام. غير أن ذلك لا يعنى أن الخطأ فى المساواة الفعلية بل إن الخطأ فى منطق النظام.
المسألة الطائفية هى نتيجة غير مباشرة لانغلاق النظام السياسى وقعوده عن استيعاب كل من هو، وما هو، غير مألوف فى نظرة من يقبعون فى مركزه إلى العالم والحياة والعلاقات بين البشر، ويتصورون أن الاصطفاف واستنساخ نفس المواطن 90 مليون مرة، وهو بالمناسبة، مواطن مطيع يقبل بصحة ما يقال له ويفعل ما يؤمر به، يتصورون أن هذا الاصطفاف وهذا الاستنساخ هما اللذان سيؤديان إلى رفعة الوطن وتحقيق مصالح الشعب. المدهش هو أن هذا هو بالضبط المنهج الذى تحكم به مصر منذ عشرات السنين ولم يفد فى حل أى من مشاكلها الداخلية أو الخارجية، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل إنه أدى إلى تفاقمها كلها. ولنسرع بالقول بأن الفشل ليس مرده أن الاصطفاف والاستنساخ لم يكونا كاملين وأن مزيدا من التضييق مطلوب لكى يصبح الاصطفاف والاستنساخ تامين. العيب والآفة هما فى فكرة الاصطفاف والاستنساخ نفسيهما.
***
نصل من ذلك إلى أن المسألة الطائفية، ومعها المسألة السياسية، وهى مسألة كفاءة نظام الحكم، والمسألة الاقتصادية، وهى مسألة انتاج السلع والخدمات وتوزيعها، والمسألة الاجتماعية وهى مسألة التفاوت بين المواطنين وإعادة التوزيع لمعالجة هذا التفاوت، هذه المسائل كلها مترابطة وهى ناتجة عن العيب الخلقى فى النظام السياسى، عيب رفض التنوع والاختلاف والتعدد. غير أن للمسألة الطائفية خطورتها الخاصة بها لأنها تتعلق بحياة مواطنين وكرامتهم وحقوقهم، من جانب، ولأنها تؤثر فى التكامل بين مكوِنات المجتمع وفى الاندماج الوطنى وفى السلام الاجتماعى وبالتالى فى سلامة الوطن، من جانب آخر. ولا يمكن لمجتمع أيا كان، وليس معروفا أى مجتمع سوى مسائله السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستطاع أن يحقق التنمية لأعضائه ومن أجلهم، وهو يعانى من مسألة طائفية فى القلب منه. ملاحقة المواطنين الأقباط ليست فقط جريمة بغيضة ضدهم، وإنما هى ترتبط بمجمل أوضاع المجتمع المصرى وإمكانية انتشاله من مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى لا يكف عن الغوص فيها والابتعاد فى أعماقها كل يوم.
تعدد الأفكار بشأن القضايا التى تعرض للمجتمع، وتنوع الزوايا التى ينظر منها إليها، واختلاف الأفكار حولها، ينتج ثراء يمكِن متخذى القرار من اختيار أفضل البدائل المتاحة. منهج التوحد والاصطفاف منهج فقير قاصر.
الاحتفاء بالاختلاف وبالتنوع وبالتعدد، وليس فقط قبولهم على مضض وكأنهم قدر محتوم، يجب أن يكون فى قلب النظام السياسى. إنه الطريق الوحيد لنزع فتيل المسألة الطائفية ولبناء مجتمع متصالح مع نفسه، يحل مشكلاته العديدة والمعقدة، ويخطو بثبات على طريق التقدم.