حين توقظ الكلمات تطوير الأهرامات
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 17 ديسمبر 2018 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
كثيرا ما يصيب الكاتب الضجر مما يكتب، واليأس من التفاعل والاستجابة. لكن رحمة الله تطل عليك كل حين، فتفسح لك طاقة فى الأفق ترى من خلالها كلمات وأفكار، تتحول بإرادة صادقة إلى مشروعات ثم عمل وإنجاز.
هذا مقال نشر فى جريدة الشروق منذ ما يقرب من العام وتحديدا فى 22 يناير 2018 كتبته بعنوان «حرصا على حقوق الفاسدين» وتناولت فيه مأساة وقوع ثروات وخيرات البلاد ضحية لعصابات الفساد والإهمال، التى تسعى بكل تبجح إلى الاحتفاظ بمكاسبها المشبوهة ولو على حساب جموع الشعب. كانت منطقة أهرامات الجيزة ومازالت خير تجسيد لتلك الصورة، خاصة بعد أن تركت إدارتها «الفعلية» لعصابات غير مؤهلة للتعامل مع السائحين. فى المقال المشار إليه كتبت نصا ما يلى: «التعاقد مع شركاء تطوير المعالم السياحية، سواء فى منطقة الأهرامات أو حديقة الحيوانات بالجيزة أو المتاحف والمزارات المختلفة، يجب أن يكون مشروطا بزيادة أعداد السائحين ومعدلات إنفاقهم ولياليهم السياحية. كذلك يجب أن تقدم دراسات وافية لتطوير كل منطقة سياحية اقتصادية بما يحقق لها الاكتفاء الذاتى، والخدمات الفندقية واللوجيستية والترفيهية بل والأمنية المختلفة. شركات الأمن الخاصة ــ مثلا ــ يمكنها أن تلعب دورا مهما فى مجالات التطوير السياحى، خاصة إذا علمنا أن التحديات الأمنية هى الأكثر تأثيرا على قرارات السائح والمستثمر فى المجال السياحى على السواء».
كذلك ورد بالمقال: «أكاد أرى منطقة الأهرامات وقد تم ترفيقها على نحو ممتاز، وتم تزويدها بتلفريك يسمح للسائحين بالتنقل فى محيطها، والاستمتاع بمشهدها من أعلى بعيدا عن مخاطر المناطيد التى أزهقت أرواح السائحين فى الأقصر غير مرة. أكاد أرى الفنادق الراقية والبازارات والمقاهى المتوافقة سياحيا وبيئيا وتنظيميا وأمنيا وهى تعمل جميعا لخدمة السائحين وفق ضوابط مُحكمة وتحت رقابة مستمرة. أكاد أرى العشوائيات المحيطة بالمشهد التاريخى المهيب وقد تم إزالتها جميعا، مع نقل ساكنيها إلى حى الأسمرات وغيره من أحياء تضمن عيشا كريما لساكنى العشوائيات. أكاد أرى منطقة اقتصادية متكاملة تعمل كنموذج مصغر لمدينة سياحية تدار بكفاءة وفاعلية، بعيدا عن الفساد والمحسوبية والرشاوى. أكاد أرى مواقع التصوير العالمية التى يتم تجهيزها للاستئجار بملايين الدولارات من قبل استوديوهات هوليوود لتصوير مشاهد الأفلام الأكثر توزيعا. أكاد أقرأ فى مواقع التواصل الاجتماعى تدوينات المشاهير والأعلام فى مختلف المجالات لصالح الإدارة الجديدة لمنطقة الأهرامات، مشجعة على السياحة فى مصر... أرى تلك المشاهد غير واهم أو حالم، بل هى قريبة وواقعية قرب سلاسل المحلات الاستهلاكية العالمية التى تم تطويرها وترفيق محيطها فى بضعة أسابيع بتكاليف تقدر بمليارات الدولارات، لتصبح وعاء كبيرا لنقل مدخرات المصريين إلى الخارج عبر السلع المستوردة فى معظمها، والاستثمارات التى لا يعاد تدويرها داخل البلاد. فى المقابل هناك فرصة لفائدة مشتركة بين الدولة والمستثمر، مع خلق فرص عمل كثيرة دائمة ومؤقتة، وتحقيق عائدات من النقد الأجنبى تحقق الاستقرار المالى وتقلل الاعتماد على القروض الأجنبية والمساعدات التى باتت معدلات نموها تشكل خطرا على البلاد».
***
وبعد كتابة تلك السطور بنحو نصف العام جاءت الاستجابة الجزئية من وزير الآثار بتصريحه الخاص بدراسة ربط منطقة الأهرامات بالمتحف القومى الجديد عن طريق «تلفريك»، ثم تحرك المجلس الأعلى للآثار بعد ذلك ببضعة أشهر ليعلن رئيسه الدكتور مصطفى وزيرى منذ أيام عن تعاقد وزارة الآثار المصرية، مع شركة «أوراسكوم للاستثمار» لتقديم وتشغيل خدمات الزائرين بمنطقة أهرامات الجيزة بعد مفاوضات استمرت قرابة عام. وقد علمنا من البيان الصحفى لوزارة الآثار أن الشركة المتعاقد معها سوف تقوم بتشغيل ساحة انتظار الحافلات خارج المنطقة الأثرية أمام المدخل الجديد الواقع على طريق الفيوم، حيث سيمنع دخول السيارات والحافلات السياحية داخل المنطقة الأثرية، كما ستقوم بتوفير وتشغيل وصيانة وسائل انتقال للزائرين داخل المنطقة، بحيث يتم تشغيل ثلاثين حافلة، وعشرين عربة تعمل بالكهرباء والطاقة الصديقة للبيئة للحفاظ على المنطقة الأثرية. فضلا عن ذلك، ستتولى الشركة صيانة الخدمات المقدمة بمركز الزوار الجديد بمدخل الفيوم الجديد والذى يضم مجموعة من المحال والمقاهى وقاعة عرض سينمائى، وسيخضع محتوى الأفلام المعروضة لإشراف المجلس الأعلى للآثار. وسيحق للشركة تنظيم فعاليات، وخدمات رقمية مثل دليل للزوار وتطبيقات هاتفية، وطباعة وتوزيع خرائط إرشادية للزائرين، وتقديم خدمات مميزة لكبار الزوار، مع إقامة أكشاك تصوير ورسم للزائرين. وتلتزم الشركة بالتعاقد مع شركة نظافة خاصة، وشركة أخرى لتأمين أماكن خدمات الزائرين فقط، مع استمرار وزارة الداخلية وأمن المجلس الأعلى للآثار وحدهما بتأمين الموقع العام والزائرين والمنطقة الأثرية والآثار. ويتضمن التعاقد حصول المجلس الأعلى للآثار على نصف صافى الأرباح المحققة من الأنشطة والخدمات المستحدثة والخدمات المقدمة بمركز الزوار، وبضمان حد أدنى مالى متفق عليه تلتزم الشركة بسداده للمجلس حتى لو لم تحقق أرباحا. ويحق للمجلس اختيار أى جهة يحددها لمراجعة الحسابات والإشراف على تنفيذ بنود التعاقد لضمان حقوق المجلس.
***
هذه صفقة جيدة للغاية على أكثر من صعيد، فهى من ناحية تحقق المحافظة على تراث وطنى وعالمى لا يقدر بثمن، ومن ناحية أخرى تشجع السياحة الأجنبية والمحلية على الاستمتاع بزيارة المناطق الأثرية، مما يشجع على زيادة تدفق السياحة وإيراداتها لتصبح رقما مؤثرا فى الناتج المحلى الإجمالى لمصر. كذلك يعتبر نجاح تلك الصفقة رغم الصعوبات والتحديات التى لابد أن تواجهها عاملا مهما لتعميم التجربة على مناطق أخرى مثل حديقة الحيوان بالجيزة، والمزارات السياحية ذات الطابع الدينى، وحتى الحدائق والمتنزهات العامة المهملة.
محاولات إفشال تلك الصفقة من قبل جماعات المصالح المنتفعين لن تتوقف، والتصدى لها يجب أن يكون شعبيا وليس حكوميا فقط. وارد أن تكون هناك إخفاقات أثناء التنفيذ، ووارد أن تظهر فى السوق لاحقا شركات أخرى أكثر جدارة ولها سابقة أعمال لإدارة المناطق الأثرية، لكن إطلاق إشارة البدء كان ضروريا لخلق طلب على هذا النوع من الاتفاقات القائمة على مشاركة الإيرادات revenue sharing agreements والتى تطرقنا إليها فى مقالات سابقة. تجدر الإشارة أيضا إلى كون التعاقد مع شركة مصرية يبطل ادعاءات بيع التراث التى لا محل لها أصلا ولو كانت الإدارة أجنبية أو متعددة الجنسيات.
بقى أن ألفت الانتباه إلى ضرورة عدم إفراغ الاتفاق من محتواه عبر التدخل المستمر فى عمل شركة الإدارة، أو إرغامها على التعايش مع عصابات نزلة السمان تحت مسمى التدريب والتأهيل، لأن هذا التأهيل يتطلب خروج أصحاب الخيول والجمال من دائرة أصحاب العمل إلى العمل كموظفين فى الشركة الجديدة، وهو أمر ليس سهلا.