هل تحتاج الدولة المصرية فعلا للمزيد من الضرائب؟
سامر سليمان
آخر تحديث:
الإثنين 18 يناير 2010 - 10:18 ص
بتوقيت القاهرة
من ضريبة مبيعات فى التسعينيات إلى ضريبة دخل فى 2005 وإلى ضريبة عقارية فى نهاية 2010 وإلى عودة منتظرة إلى ضريبة المبيعات لإصلاحها (أو زيادتها) تم الإعلان عنها وإن كان موعدها لم يتحدد بعد. إذا كان نظام الرئيس حسنى مبارك قد اتسم بالركود السياسى فإنه يتميز بالحركية والنشاط على الصعيد المالى.
لاشك أن التحولات المالية والضريبة التى تعرفها الدولة الآن سوف تدخل ضمن أهم التغييرات الجذرية التى شهدتها دولة مصر فى عهد الرئيس حسنى مبارك، وهى تحولات تحتاج إلى وضعها فى سياقها التاريخى لفهمها والحكم عليها.
لم تكن الضرائب تثير كل هذا اللغط فى العصور السابقة. ففى عهد السيادة العثمانية والاحتلال البريطانى أجبر الاستعمار الدولة المصرية على عدم فرض ضرائب دخل على الأجانب، وهو الأمر الذى حال دون فرض ضرائب على المصريين. هكذا ظلت إيرادات الضرائب محدودة وكادت تقتصر إيرادات الدولة على الجمارك والأيلولة.
لم تبدأ الدولة المصرية فى التخلص من ذلك «الخصاء» الضريبى إلا بنمو حركة التحرر الوطنى التى أسفرت بعد نضال طويل عن توقيع اتفاقية مونترو بسويسرا سنة 1937 والتى أعادت للدولة المصرية أحد حقوق السيادة الأساسية وهى فرض ضرائب.
دخلت اتفاقية مونترو إلى الخدمة فى 1939، لكنها لم تستطع تصحيح حالة الضعف الضريبى سواء لأن الجهاز الضريبى كان لم يزل فى مرحلة الطفولة، أو لأن طبقة الملاك العقاريين السائدة لم تكن لترضى بالتخلى عن جزء مهم مما كانت تستقطعه من عرق الفلاح.
لم يساعد وصول الضباط الأحرار إلى السلطة القدرات الضريبية للدولة، لأن نظام عبدالناصر مال إلى الاستحواذ المباشر والتأميم تجاه الطبقات المالكة، عوضا عن ملاحقتها ضريبيا. لذلك ظل الجهاز الضريبة للدولة كسيحا حتى أوائل السبعينيات عندما تولى الرئيس السادات الذى لم يقم هو الآخر بأى إصلاح ضريبى يذكر سواء لأنه كان مشغولا بالحرب والسلام أو لأنه تمتع فى النصف الثانى من السبعينيات بدخول كثيرة من البترول وعائدات قناة السويس والمساعدات الأجنبية. وصل مبارك إلى السلطة عام 1981 وكانت إيرادات الدولة تبلغ نحو 47% من الناتج المحلى الإجمالى وهو مستوى مرتفع بالمقاييس الدولية.
ولكن لم تكد تمر عدة سنوات على تولى مبارك حتى بات واضحا أن التدفقات الريعية من عائدات نفط وقناة سويس ومساعدات مالت إلى الانخفاض ولم تعد قادرة على تعويض قصور عائدات الضرائب. وبما أن إحدى السمات الأساسية لنظام مبارك هو الميل إلى «الاستقرار»، أى إلى التكيف مع المتغيرات عوضا عن مواجهتها بشكل مباشر فقد سعت الحكومة فى الثمانينيات إلى استنزاف أموال التأمينات والمعاشات واتجهت إلى طبع النقود وإلى الاستدانة من الخارج لتعويض النقص الحاد فى إيرادات الدولة مما أسفر عن موجة تضخمية كارثية أصابت الاقتصاد المصرى فى تلك المرحلة.
باختصار اتجه نظام مبارك إلى مرحلة من الكر والفر والدهاء لتعويض نقص إيرادات الدولة دون اللجوء إلى الدواء المر وهو العمل على زيادة إيرادات الدولة من الضرائب وهو الأمر الذى بات من الصعب الفرار منه بداية من التسعيينيات حينما لجأت الدولة إلى فرض ضريبة المبيعات وأخيرا لجأت إلى أكثر الأدوية مرارة وهى محاولة استقطاع جزء أكبر من دخول الناس كما حدث مع قانون الضرائب على الدخل الجديد الذى دخل إلى الخدمة منذ عدة سنوات.
هذا الميل الجبائى للدولة لابد أن يثير معارضة. فعندما تستدير الدولة للمواطنين طالبة منهم مزيدا من الأموال لابد أن يجأر الناس بالشكوى بالحق أو بالباطل. ولكن هذه المعارضة لا يجب أن تمنعنا من طرح السؤال الأساسى: هل تحتاج الدولة المصرية فعلا إلى مزيد من الإيرادات الضريبية؟ الإجابة هى نعم لسببين أساسيين.
السبب الأول هو حاجة مصر لإصلاح جذرى فى جهاز دولتها. لا حاجة هنا لإغراق القارئ بإحصائيات تفصيلية مملة. فكلنا ندرك مدى التدهور الذى لحق بالمرافق العامة فى مصر. وكلنا نعرف سوء حالة الخدمات التعليمية والصحية والأمنية وغيرها. بالطبع المشكلة لا تقتصر على قصور الموارد ولكن أيضا على كيفية استخدامها. لكن حتى بفرض زيادة كفاءة ونزاهة استخدام الموارد العامة ستظل مصر فى حاجة إلى دولة تنموية نشيطة قادرة بمواردها على قيادة عملية التنمية الاقتصادية أو على تهيئة البيئة الصالحة لتلك التنمية. بالطبع يظل حجم الدولة ومدى تدخلها فى الاقتصاد قضية خلافية بين اليمين واليسار. لكن قيام الدولة بالحد الأدنى من الوظائف لخدمة عملية التنمية ليست قضية خلافية اليوم. حتى البنك الدولى، وهو أحد معاقل الفكر الاقتصادى المحافظ، قد اعترف فى تقريره الصادر عام 1997 عن الدولة بأن تجربة التنمية فى جنوب شرق آسيا قد أثبتت أن الدولة التنموية النشيطة المنفقة بسخاء على التعليم والبحث والبنية الأساسية هى إحدى الشروط الأساسية للتقدم الاقتصادى. والمتابع للجدل فى الفكر التنموى المعاصر يعرف جيدا أن هذا الموضوع محسوم منذ منتصف التسعينيات.
السبب الثانى الذى يدفعنا لتأييد تنمية إيرادات الدولة المصرية هو الحالة المزرية للفقر وللعدالة الاجتماعية فى مصر. وهنا أيضا نحن لا نحتاج إلى إحصائيات مفصلة ولا الدخول فى جدل حول نسب الفقر الحقيقية ولا إلى اللجوء إلى منحنى «لورنز» لبيان مدى التفاوت فى الدخل. فكلنا نعرف أن نحو نصف المصريين يعيشون فى ظروف حياتية بائسة. وتكفى زيارة واحدة إلى إحدى المناطق الراقية مصحوبة بزيارة لاحقة إلى جارتها الفقيرة لكى يتبين المرء هول التفاوت فى مستويات معيشة المصريين، وهو الوضع الذى إذا تسامح معه غلاظ القلوب فمن الصعب أن يتغاضوا عن آثاره الاجتماعية والسياسية. يكفى أن نقول هنا إن تفاوتا اجتماعيا بهذا الحجم لابد أن يشجع على سيادة التسلط السياسى والديكتاتورية، لأن الفكرة الشائعة تكون هنا أن أى تراخٍ فى قبضة الدولة الأمنية البوليسية من الممكن أن يؤدى إلى قيام الفقراء بالفتك بالأغنياء. لا بديل عن قيام الدولة بدور أنشط فى إعادة توزيع الدخل.
إذن الدولة المصرية ــ إذ كان لها أن تقف على قدميها وتخرج من محنتها ــ تحتاج المزيد من الإيرادات. السؤال هو لماذا تظل الدولة عاجزة عن جمع ما تحتاجه؟ ولماذا تلجأ هذه الدولة إلى لعبة القط والفأر مع المجتمع لتنمية إيراداتها؟ ولماذا يظل توزيع عبء الضريبة غير عادل؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه فى المقال القادم.