حول إعادة الروح للشركات العامة!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الجمعة 18 يناير 2019 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
دائما ما يُعيد مصطلح «الشركات العامة» إلى ذاكرة الاقتصاديين الصورة التى كانت عليها حقبة تملك الحكومة لجميع وسائل الإنتاج، وسيطرتها، شبه الكاملة، على مجريات النشاط الاقتصادى. ولأنه، وخلال هذه الحقبة، كان من الطبيعى أن تصبح مشكلات الشركات العامة محور اهتمام الباحثين وراسمى السياسات الاقتصادية؛ إلا أنه مع التغير الكبير الحاصل حاليا فى النشاط الاقتصادى فى أغلب دول العالم الثالث، والانتقال من اقتصاد تسيطر عليه هذا النوع من الشركات صوب اقتصاد خاضع لسيطرة القطاع الخاص، قد بات الحديث عن الشركات العامة وهمومها ومعضلاتها هو نوع من الحديث عن الماضى. فهل قدر هذه الشركات أن تظل رهينة للماضى ومشكلاته؟ وإذا كان ذلك هو قدرها الذى وُضِعت فيه عن عمد، فكيف يمكن أن يُعاد صياغة هذا القدر، حتى تُنتَشل هذه الشركات من هذا الوضع غير التنموى، وحتى تصير خادمة لعملية التنمية وليست عبئا عليها؟ الفقرات التالية قد تساعد فى الإجابة على هذه الأسئلة الشائكة.
****
من المعلوم أن هناك عوامل عديدة تتسبب فى نجاح شركة ما وفى فشل شركة أخرى. ولما كانت الشركات تنقسم حسب شكل ملكيتها إلى شركات عامة وشركات خاصة، فهل يمكننا أن نضم شكل ملكية الشركات لعوامل نجاحها أو فشلها؟ وبصياغة بديلة، هل يمكن أن يترتب على شكل الملكية حدوث خلل فى أداء واستمرارية الشركات؟
فى محاولة الإجابة عن السؤال السابق، يذهب الكثيرون للادعاء بأنه مادامت هناك عوامل موضوعية تتسبب فى نجاح الشركات، فإن شكل ملكية الشركة يندرج تحت هذه العوامل. فهم يدعون أن الشركات المملوكة للقطاع الخاص لديها القدرة على تحقيق الأرباح أكبر من الشركات العامة، لا لشىء إلا لأن الأخيرة مملوكة ومداراة من قبل الحكومة. وأغلب أصحاب هذا الرأى ينضوون تحت لواء الاقتصادى الأمريكى النيوليبرالى ذائع الصيت «ميلتون فريدمان».
فها هو «فريدمان»، يُعدد، فى مثال شهير له، أربع حالات لإنفاق المال. فعندما تُنفق مالك على نفسك (كحال الشركات الخاصة)، ستراعى حجم المال المنفق، وستهتم بما يولده هذا الإنفاق من منافع؛ وهذه هى الحالة الأولى. وفى الحالة الثانية، فإنك إذا أنفقت مالك على غيرك، فلن يشغلك ــ وفقا لفريدمان ــ سوى حجم ما تنفقه من أموال، بغض النظر عن المنافع المترتبة على هذا الإنفاق. وفى الحالة الثالثة، فإنك إذا أنفقت مال غيرك على نفسك، فحينها ستسعى جاهدا لزياد المنافع المترتبة على الإنفاق، دون الاكتراث بحجم الأموال التى ستنفقها. أما الحالة الرابعة والأخيرة، فهى عندما تنفق مال غيرك على طرف ثالث (وهى حالة الإنفاق من المال العام). وفى هذه الحالة، لن تكترث بحجم المال المنفق، ولا بالمنافع المترتبة عليه. وبناء على الحالة الرابعة، يُحاج «فريدمان» بالقول بأن الخصائص البنيوية للإنفاق العام هى السبب الجوهرى فى انتشار الهدر فى المال العام، وهى المسئولة عن تفشى الفساد فى الأجهزة الحكومية، بما فيها الشركات العامة.
وحتى نُفند حجة «فريدمان» هذه، دعنا نُقر أولا بأن هناك شواهد عديدة، وفى الشركات العامة ببلدان العالم الثالث على وجه الخصوص، تؤيد ما انتهى إليه ادعاؤه. فمظاهر الهدر فى أنشطة الشركات العامة التى تديرها الحكومة كثيرة. وحالة التردى فى مؤشرات الإنتاجية فى هذه الشركات لا يمكن تجاهلها إلا من أصحاب التحيزات العمياء. كما أن تراكم الخسائر فى ميزانيات هذه الشركات جعلها عبء متزايد على ميزانية الدولة، لا مساندة لها. لكننا، ومع كل تلك الشواهد، نعتقد أن خلافنا الجوهرى مع ادعاء «فريدمان» وأنصاره، أنه يُرجع هذه المشكلات لشكل ملكية الشركات العامة؛ أما نحن فنردها لمقومات وخصائص إدارتها التنفيذية. فالحالات الأربعة التى عددها فريدمان فى مثاله، هى مجرد افتراضات تقوم على تصور مادى بحت، لا وجود للأخلاق فيه. وفوق كونها مجرد افتراضات، فهى تنفى، ضمنيا، وجود أى نوع من أنواع الرقابة على عملية الإنفاق، سواء كانت رقابة ذاتية من المُنفق نفسه (بفعل الوازع الأخلاقى)، أو رقابة من أجهزة الرقابة الخارجية (بفعل الوازع التنموى). وبالتالى، وعندما تتوافر مقومات الرقابة الفاعلة، ستختفى الخصائص البنيوية التى نسبها «فريدمان» للإنفاق العام؛ وسيراعى القائم بالإنفاق العام ــ طوعا أو كرها ــ حجم ما يقوم بإنفاقه، وسيجتهد لتعظيم المنافع المتأتية من هذا الإنفاق. وبما أن الرقابة الفاعلة هى محور الوظائف المنوطة بالإدارة التنفيذية، فإن مشكلات الشركات العامة إذن ليست فيمن يملك هذه الشركات، بل فيمن يُديرها ويراقب عملها.
***
فى الفقرات السابقة، لم نكن بصدد الدفاع عن الشركات العامة، ولم نسعى للتهوين من المشكلات التى تجابهها. فنحن نعتقد، ابتداء، أن وجود واستمرار الشركات العامة هو ضرورة حتمية لزيادة مقومات النمو الاقتصادى، وضرورة لكى تصبح يد الحكومة قوية فى مواجهة الاحتكارات فى أسواق السلع والخدمات، وتقلل بها من الآثار السلبية لصدمات الإنتاج التى قد تحدث بين الحين والآخر. كما نعتقد، يقينا، أن التردى الإدارى الذى أصاب هذه الشركات هو المسئول الأول عن تراجع هذه الأدوار. ولكى يتسن للشركات العامة أن تقوم بهذه الأدوار كاملة غير منقوصة، لنتأمل فى النقاط التالية أهم محددات الإدارة الاقتصادية الرشيدة لهذه الشركات، والتى تفرقها عن إدارة الشركات الخاصة.
المحدد الأول لإدارة الشركة العامة هو ألا يكون هدفها الوحيد هو تحقيق أقصى ربح تجارى ممكن. فبخلاف الشركات الخاصة، يتعين أن تكون الأرباح الاقتصادية هى الهدف رقم واحد للشركات العامة. والأرباح الاقتصادية التى نقصدها هنا تُحسب من وجهة نظر الاقتصاد الوطنى ككل. فلا غضاضة إذن فى تراجع نسبى للربحية التجارية للشركة العامة، ما دامت أقدر على زيادة القيمة المضافة الوطنية المولدة من الأنشطة الاستراتيجية، وأجدر على زيادة إنتاجية العمال الوطنيين، وأرفع فى توطين واستخدام التكنولوجيا الحديثة، وأقل فى الحاجة للاستيراد، وأوسع فى القدرات التصديرية. وبدون التخلى عن تعظيم هدف الربح التجارى، يمكن للشركات العامة أن تحقق هذه الأهداف مجتمعة، وذلك فقط إذا حازت على الدعم الحكومى التخطيطى والتمويلى والتسويقى الملائم لحاجاتها. أما إذا جُعل هدف الربح التجارى هو منتهى أمل مجلس إدارتها، ستتشتت بوصلة هذا المجلس، وسيبحث ــ بشتى الطرق ــ عن تحقيق الأرباح التجارية، حتى ولو على حساب القدرات الاستمرارية والتنموية للشركات (لاحظ أن بعض مجالس إدارات الشركات العامة تلجأ لبيع بعض أصولها الاستراتيجية لتُظهر الأرباح عنوة فى قوائمها المالية). وبسبب ذلك، وبكل أسف، تظل هذه الشركات فى مهب الرياح العاتية للخصخصة.
فى اقتصاد لا يضع قيودا تنموية على وجهات الأنشطة الاستثمارية، ولا يقدم منظومة متطورة من الحوافز الاستثمارية التنموية، يسعى الاستثمار الخاص، مدفوعا بهدف تحقيق أقصى ربح تجارى ممكن، إلى التركز فى الأقاليم والقطاعات والأنشطة الاقتصادية التى تحقق له هذا الهدف. وبالتالى، نعتقد أن المحدد الثانى للإدارة الاقتصادية للشركات العامة هو أن تتخصص فى الأنشطة الاقتصادية التى تحقق التنويع فى هيكل الاقتصاد الوطنى، وأن تعوض تقصير الشركات الخاصة فى الأنشطة التنموية. وفى ذلك، يجب أن تنصرف أنشطة الشركات العامة لتغطية الفجوات القطاعية، والفجوات الجغرافية، وأن تتناغم وتتكامل ــ أفقيا ورأسيا ــ مع بعضها البعض، ومع باقى وحدات القطاع الخاص، كى يستقر ويتوازن وينمو الجسد الاقتصادى الوطنى.
ويرتكز المحدد الثالث للإدارة الاقتصادية للشركات العامة على خصوصية عملية اختيار أعضاء مجالس إدارات هذه الشركات، وتعيين قياداتها التنفيذية. وفى جُعبتنا العديد من الأمثلة التى تؤكد على أن النجاح فى اختيار القيادات التنفيذية للشركات العامة، كان سببا جوهريا وراء نجاح هذه الشركات فى تحقيق ما أُسست لأجله. ومن نافلة القول أن إعادة النظر مليا فى المعايير الموضوعة للاختيار، وفى الخلفيات العلمية والعملية المطلوبة لشاغل هذه المناصب، هى فرض عين على القائم على الاختيار. كما أننا لسنا فى حاجة لنذكر القائم على الاختيار أن غياب هذه المعايير لن يؤثر سلبيا على أداء هذه الشركات فقط، بل يضر عملية التنمية الاقتصادية برمتها.
أما المحدد الرابع والأخير، وكما أشرنا آنفا، فهناك أهمية بالغة لتعزيز عملية الرقابة والتقييم لأنشطة الشركات العامة، ولتطوير نظام الثواب والعقاب لمجالس إداراتها. فحتى لو نجحت الحكومة فى مراعاة المحددات الثلاث السابقة، فإن الشركات العامة ستظل رهن للخسائر التجارية والاقتصادية، عندما تنخفض كفاءة عملية الرقابة والتقييم على أنشطتها، وعلى أداء مجالس إداراتها. والمعضلة الأساسية فى هذا الخصوص، هى أن معظم أجهزة الرقابة الخارجية، ومؤسسات التقييم المستقلة، تركز أغلب جهودها على تدقيق الجوانب المالية فى الشركات العامة، على حساب رقابة وتقييم الأداء الاقتصادى لها. ونحن نعلم أن هذا التركز يرجع إما لسهولة ونمطية عملية الرقابة والتقييم المالى، أو لفرط التخصص فى أنشطة الشركات العامة، وبما ينشىءالحاجة لتخصصات غير متوفرة لإتمام عملية الرقابة والتقييم. لكننا إذا أردنا حقا أن نساند هذه الشركات، فلا بديل عن تحقيق التكامل بين الرقابة على المال وبين الرقابة على الأداء، من خلال إتاحة الخبرات اللازمة لجهات متابعة ورقابة وتقييم الأداء المالى والاقتصادى للشركات العامة.
وبتكامل المحددات الأربعة السابقة، وبتوافر الظروف الاقتصادية المواتية، ستجاهد الشركات العامة لاسترداد عافيتها، وسيعود لها دورها المحورى فى تمويل الموازنة العامة للدولة وفى التصدى للاحتكارات الخاصة، بذات القدر الذى ستتمكن فيه هذه الشركات من توليد النمو الاقتصادى الحقيقى.
***
لقد سعينا فى التحليل المتقدم أن نثبت للقارئ خطأ الادعاء القائل بأن المشكلات التى تواجه الشركات العامة نابعة من شكل الملكية العامة، وأن هذه المشكلات لصيقة بالإدارة الحكومية لها. كما حاولنا أن نبين وجود حلولا واقعية وعملية، يمكنها أن تساعد فى بث الروح من جديد فى جسد هذه الشركات الوطنية. وعندما تعود الروح للجسد، سيُسحب البساط من تحت أقدام دعاة الخصخصة، وستضعف قوة معارضتهم لجدواها التنموية، وسيعود لهذه الشركات مجدها الذى يسعى إليه دائما أنصار «التنمية المستقلة»!
خبير اقتصادى