من التصدي لكورونا إلى محاصرة التضخم!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 يناير 2022 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
يبدو أن الاقتصاد العالمى يعيش حاليا حقبة جديدة فى عصر أزمته المستمرة. فما إن بدا وكأنه يتنفس الصعداء مما حاق به من جراء فيروس «كورونا»، وأخذت عجلات الإنتاج فى الانتظام والدوران من جديد، حتى جثم التضخم المنفلت على صدره، وتقطعت بالتجارة العالمية السبل. والعلاقة بين التضخم والتجارة العالمية وطيدة وذات اتجاهين. فلا يخفى على أحد أن حركة التجارة العالمية شديدة الحساسية للتغير فى أسعار الطاقة. فمن جانب، يقابل كل زيادة فى تكاليف النقل تراخ فى حركة التجارة بين دول وأقاليم العالم المختلفة؛ ومن جانب آخر، يولد التراخى فى حركة التجارة العالمية مزيدا من الضغوط التضخمية فى أسواق العالم، متقدمها وناميها.
والتضخم العالمى الذى أتى فى ركاب كورونا ليس شرا محضا لكل دول العالم؛ ففيه بالتأكيد منافع لأولئك الذين يملكون السلع والخدمات التى ارتفعت أسعارها، أو الذين يصدرون أكثر مما يستوردون. ومن هؤلاء بعض من دولنا العربية التى تملك حصة كبيرة من مخزونات النفط العالمى. فتضاعف أسعار النفط يعنى أن موازنات هذه الدول تحقق فوائض مالية تعينها ــ ولو جزئيا ــ على التخفيف من تبعات وتكاليف التضخم، بإبطاء زحفه على موازنات مواطنيها. أما شرور هذا التضخم فتذهب بالكلية للدول النامية المنكشفة تجاريا على العالم، والتى تصدر له أقل مما تستورد منه. وباقى الدول العربية تقف فى صفوف هذه الدول المكلومة.
• • •
سنفتح الآن نافذة على أسواق العالم لنشخص المستوى الحالى والمتوقع للتضخم، ولنحدد مدى تأثر الأسواق العربية بذلك. ففى الوقت الذى اعتقد البعض فيه أن العالم على بعد خطوات من انقشاع غُمة كورونا، بدأ ظلها الكئيب يمسك بخناق الأسواق العالمية ويُحدث موجات تضخمية أصابت طائفة كبيرة من السلع والخدمات؛ ليرتفع بذلك المتوسط العام للأسعار العالمية بمعدل يناهز 20% خلال العام المنصرم 2021. فالأسعار العالمية للحبوب والغذاء وصلت لمداها. وأسعار الطاقة تتقلب فى الاتجاه الصاعد. ويدور سعر برميل النفط حول عتبة الثمانين دولار. وتتضاعف أسعار الغاز الطبيعى مع اشتداد موجات البرد فى شمال العالم. وتشهد المعادن الرئيسية نموا سريعا فى أسعارها.
ولم تكن الأسواق العربية بعيدة عن هذه الموجات العاتية للتضخم؛ بل إن درجة الانكشاف التجارى المرتفعة التى تعانى منها كثير من هذه الدول، جعلها عرضة أكثر من غيرها لهذا التضخم. تأمل مثلا فيما جرى فى أسواق السودان خلال العام الماضى؛ ستجد معدل التضخم حلق هناك فى عنان السماء، بعدما اقترب من معدل 200% خلال عام واحد. وأسواق اليمن وليبيا ليست فى أحسن حالاتها وفق التقارير الدولية؛ فلقد ارتفعت فيها الأسعار لمعدلات قياسية خلال نفس العام. أما ارتفاع الأسعار فى أسواق لبنان فهو مما يسير به الركبان.
وإذا كان من المهم تنبيه القارئ بأن التضخم فى هذه الأسواق العربية المأزومة ليس صنيعة كورونا وحدها، وأن غياب الاستقرار السياسى والاجتماعى قد لعب دوره بكفاءة فى إشعال الأسعار هناك؛ فإن من الواجب أيضا القول بأن هذا الاستقرار لن يبطئ وحده من الزيادة المستمرة للأسعار؛ وإلا، فلماذا عانت دول عربية مستقرة من ارتفاع معدل التضخم، كحالة الاقتصاد الجزائري؟ أو لماذا تنمو التوقعات المستقبلية لهذا التضخم فى معظم الدول العربية، وخصوصا الإفريقية منها؟!
• • •
إن مجرد رصدنا للتضخم الذى تشهده الكثير من أسواقنا العربية هذه الأيام ليس هو الهدف الأهم لهذه الفقرات؛ فالجميع يلمس بنفسه الزيادات السعرية فى هذه الأسواق. بيد أن ما نصبو إليه هنا هو تقديم تفسير منضبط لهذا التضخم. ولو جنبنا من تحليلنا أثر الاستقرار السياسى والاجتماعى على الأسعار، ستكون البداية الصحيحة فى التفرقة بين التضخم محلى المنشأ وبين التضخم المستورد من الخارج. وإذا كانت طبيعة الأسواق فى الاقتصادات العربية صاحبة الفوائض المالية لا تولد ضغوطا تضخمية محلية معتبرة؛ وإذا كانت الاقتصادات العربية المأزومة والمدينة، رغم ما لديها من موارد وإمكانات، لديها هيكل إنتاجى غير متوازن ويولد ضغوطا تضخمية محلية مستمرة؛ فإنهما الآن، ونتيجة لتبعات جائحة كورونا، باتا أمام تهديد تضخمى آت من الخارج؛ وتحديدا من الأسواق الرئيسية التى تصدر التضخم وتنشره عالميا.
وواقع الأمر أنه كلما زادت أهمية قطاع التجارة الخارجية فى أى اقتصاد، زادت مخاطر استيراده للتضخم من الأسواق الدولية. ويحدث ذلك تحديدا عندما تتفوق وارداته من هذه الأسواق، كما وكيفا، على صادراته إليها. وفى حالة الاقتصادات العربية التى تنتج مالا تستهلك وتستهلك مالا تنتج، فإن هذا الوضع كفيل بحد ذاته ليجعلها تتأثر بشدة بالموجات التضخمية التى أحدثتها جائحة كورونا عالميا. وحتى إذا افترضنا حدوث زيادة فى قيمة بعض من الصادرات العربية نتيجة لحدوث هذا التضخم، فإن هذه الزيادة فى الصادرات ستقابلها زيادة فى قيمة ما يستورده من سلع وخدمات من العالم، وخصوصا لارتفاع نسبة المدخلات الأجنبية فى الصادرات العربية؛ ومن هنا تحديدا تبدأ مشكلة التضخم المستورد فى الظهور والتأثير فى المستوى العام للأسعار العربية.
ويمكننا تقدير اتجاهات التأثير المتوقع للتضخم المستورد على هيكل الأسعار فى الأسواق العربية، إذا ما حللنا هيكل وارداتها من العالم، ثم قارناها بمكونات سلة أهم السلع والخدمات المستهلكة فى تلك الأسواق. ووفق ما يتاح من بيانات إحصائية عن التجارة العربية، فإن الأجهزة الإلكترونية والحاسبات، والسيارات وقطع غيارها، والزيوت النفطية، والآلات، والأدوية، كلها تشكل أهم الواردات السلعية العربية من العالم الخارجى. كما أن السلع الغذائية والمشروبات تحتل أيضا حصة مهمة ضمن هيكل الواردات العربية. ولما كانت هذه السلع تعانى حاليا من ارتفاعات متتالية فى أسعارها بالأسواق العالمية؛ ونظرا لأنها تدخل بطريقة مباشرة وغير مباشرة فى تركيب سلة الاستهلاك المحلى؛ فمن المتوقع أن يتجه الرقم القياسى لأسعار المستهلكين العرب للارتفاع، محدثا معدل موجب للتضخم فى السوق العربى. ومن ذلك نفهم كيف أن الاقتصادات العربية مُعرضة ــ شأنها شأن باقى الدول النامية ــ لاستيراد التضخم من السوق العالمى. لكن يبقى سؤال هام يحتاج لإجابة، وهو: هل هذا التضخم المستورد سيكون من الحدة لدرجة تستدعى المواجهة العاجلة؟ وإذا كان ذلك هو الأوفر توقعا، فكيف السبيل لهذه المواجهة والمحاصرة؟
• • •
إجابتنا المختصرة أنه لا يجوز بحال الاستهانة بالتضخم المستورد أيا كانت درجته أو حدته. فهذا النوع من التضخم إذا ما ترك دون مواجهة جادة، يمكن أن يولد ضغوطا تضخمية محلية انتشارية، ليزيد بالتدريج من حدة التضخم ويبعد الاقتصاد العربى أكثر وأكثر عن وضعية التوازن النقدى؛ ناهيك طبعا عن دوره فى التهام شطر لا بأس به من الاحتياطات النقدية العربية. وإذا أخذنا فى الاعتبار أن ارتفاع أسعار النفط العالمى يؤثر على أسعر الطاقة فى الأسواق المحلية العربية، فنحن إذن أمام زحف تضخمى يتسم بالجدية. وإزاء هذا التهديد المحتمل، فمن الواجب أن تعد السياسات الاقتصادية القُطرية العدة جيدا لمحاصرة هذا التضخم تحديدا. ولها فى ذلك طريقان؛ أحدهما يركز على الأجل القصير والمنظور، والآخر يعمل على أجل زمنى متوسط. فأما عن سياسات الأجل المنظور، فنصيحتنا أن تعزز السياسة التجارية أدواتها للبحث عن أنسب وأفضل العروض فى الأسواق الدولية السلع الغذائية، أو تلجأ لبدائل التعاقد الآجل بعد حساب الجدوى الاقتصادية. وفى جميع الأحوال، من الأفضل للدول العربية الدخول فى تكتلات تجارية عند عقد الصفقات العالمية. كما أن السياسات النقدية العربية مُطالبة بالتدخل الكفء لصناديق التحوط والصناديق السيادية لمحاصرة هذا التضخم المستورد، وبالشكل الذى لا يؤثر بشدة على عوائد استثمار أصول هذه الصناديق. كما يمكن للسياسة المالية أن تتحمل جزء من تكاليف تهدئة هذه الضغوط، عبر اتباع سياسة مالية متوازنة فى الأداء ومزدوجة فى التأثير على جانبى الموازنة العامة، النفقات والإيرادات.
وأما على صعيد السياسات متوسطة الأجل، فستظهر أمامنا السياسات الكفؤة فى توظيف الموارد الاقتصادية وتجنيبها الهدر والتعطل أو التصدير فى شكلها الخام؛ وستظهر كذلك السياسات الداعمة للاستثمار والتشغيل والإنتاج والتصدير. فلا بديل نراه أمام الاقتصاد العربى للمحاصرة المستدامة للتضخم ــ بشقيه المحلى والمستورد ــ بغير تعزيز القدرات الإنتاجية العربية. والاستثمارات العربية البينية سيكون لها مفعول السحر فى النهضة الإنتاجية العربية. وبعودة سريعة لقنوات التضخم المستورد، فمن المهم أن تستهدف هذه السياسات متوسطة الأجل توطين التكنولوجيا فى الاقتصادات العربية، فضلا عن دعم الأنشطة الإنتاجية فى قطاع الزراعة الحديثة، ودعم الناتج الصناعى العربى عبر دعم المكون المحلى العربى فى هذه الصناعة. فذلك وحده الكفيل بأن ترتقى مكانة الاقتصاد العربى فى سلاسل القيمة العالمية، وهو ضمانة أساسية للنزول بمخاطر استيراد التضخم لحدها الأدنى.
• • •
وعود على بدء؛ فنعلم جيدا أن تصدى الأقطار العربية، غنيها وفقيرها، لجائحة كورونا لم يكن بالأمر الهين أو اليسير على مجمل الأداء الاقتصادى العربى، وتحديدا على الجناح الذى ليست لديه الفوائض والثورات التراكمية. لكننا نؤمن أيضا أن الاقتصاد العربى لا تنقصه الموارد ولا الإمكانات التى يحتاج إليها بإلحاح، ليس للتصدى لهذه الجائحة فحسب، بل لمحاصرة هذا التضخم الزاحف كذلك. وأملنا الوحيد للنجاح فى هذا التصدى وتلك المحاصرة أن تتعاون وتتكامل الاقتصادات العربية فيما بينها، وأن تنشط وتزدهر حركة الاستثمارات العربية البينية؛ ولم لا، ومستقبلهم مشترك ومصيرهم واحد!