إسرائيل.. ومعضلة «اليوم التالى»
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الخميس 18 يناير 2024 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
لم تبلور إسرائيل، حتى الآن، وبعد مرور أكثر من 100 يوم على اجتياحها قطاع غزة، موقفا رسميا بشأن اليوم التالى للحرب. التخبط هو سيد الموقف: هل ستحتل قطاع غزة؟ هل ستقيم منطقة عازلة بينه وبين مستوطنات وبلدات ما يُسمَّى بالغلاف؟ هل ستقيم مستوطنات به كما كان قبل «فك الارتباط» به فى 2005م؟ هل ستشرك السلطة الفلسطينية فى إدارته؟ هل ستختار من أهل القطاع أناسا، تثق فى ولائهم، ليديروا شئونه؟ هل ستعمل على تهجير سكانه البالغ عددهم أكثر من مليونى شخص؟ هل ستأتى بشخصيات قيادية فلسطينية من خارج القطاع؟ هل ستسعى إلى وضع القطاع تحت وصاية دولية؟. كلها سيناريوهات متداولة فى الخطاب الإعلامى الإسرائيلى. إلى جانب التخبط، هناك مخاوف من ألا تستطيع إسرائيل القضاء، أصلا، على حماس فى القطاع، إذ ما تزال حماس فى وضع قوى، كما يقول جلال البنا («يسرائيل هيوم»، 27/12/2023م)، وقادرة على «إطلاق الصواريخ، وإصابة البطن الرخوة لإسرائيل، وإدارة المعركة، وإصابة جنود بشكل يومى، فضلا عن أنها تجرى مفاوضات مع كبار مسئولى الحركة بشكل معلن ــ عبر دولة ثالثة ــ من أجل وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى». من الواضح، إذا، أن الحديث عن «اليوم التالى» حديث افتراضى، إذ إن الأهداف التى وضعتها إسرائيل للحرب لم تتحقق، فما تزال قيادة حماس تدير المعركة من داخل غزة، وما يزال القوام الأكبر لقواتها، التى تقدر بـ «نحو 30000» مقاتل، بحسب، نوعم أمير («ماكور ريشون» 25/12/2023م) موجودا، مشيرا إلى أن «كل محاولة لبناء خطط مستقبلية هى فى حكم الكلام الفارغ». وإذا افترضنا، جدلا، أنها قضت عليها، فليس هناك ما يضمن ألا تعود الحركة لحكم القطاع، بعد فترة من الوقت، إذ لا سبيل «لضمان ألا تعود لحكم القطاع»، كما يقول، موردخاى قيدار («ماكور ريشون» 24/12/2023م)، لكونها مكونا مهما من مكونات الشعب الفلسطينى، وفصيلا يحظى بشعبية ليست بالهينة.
وثمة من يرى أن «اليوم التالى» مصطلح إشكالى، قد لا يأتى، أصلا، ومنهم المستشرق الإسرائيلى، دورون متسا، («يديعوت أحرونوت» 15/12/2023م) الذى يرى أن المعركة الحالية ضد غزة «حرب استنزاف طويلة المدى تستهدف إضعاف إسرائيل، والإضرار باقتصادها وبتفكيكها خطوة خطوة»، مشيرا إلى أنه قد حدث خلال العامين ونصف الأخيرين «انقلاب فى التوجه، تبنى فيه الخصم فكرة المعركة بين الحروب، وحوَّلها إلى منهج عمل، بدعم وبمشاركة غير مباشرة من جانب إيران وحزب الله»، وأن الهدف من وراء هذا النهج الجديد هو «إعادة الشرق الأوسط إلى سياسة الهويات التقليدية القائمة على محددات أيديولوجية قومية ودينية، وتقويض النظام الاستراتيجى الذى جرى بناؤه فى العقد ونصف الأخير، وبلغ ذروته فى توقيع اتفاقيات «أبراهام»، وأوشك أن يتطور إلى توقيع اتفاق للتطبيع مع السعودية»؛ ومن ثم يخلص إلى استنتاج مفاده: «أنه لا معنى فى الحقيقة لمصطلح «ما بعد الحرب»، نظرا لأن الحرب من المفترض أن تستمر فى ساحات مختلفة وبوتيرة متغيرة، حتى بعد انتهاء النشاط العسكرى فى غزة».
• • •
من الشواهد الدالة على تخبط إسرائيل بشأن «اليوم التالى»، أنها لم تشرع فى مناقشة المسألة، إلا متأخرا وبعد إلحاح أمريكى، وتساؤلات من جانب الجماعة الدولية، والإعلام الإسرائيلى والغربى، وأنها أرجأت النقاش حولها ثلاث مرات لأسباب يتعلق بعضها بالمناكفات السياسية داخل الائتلاف الحكومى الإسرائيلى. هنا، يُطرح السؤال: هل لدى إسرائيل، حقا، خطة لـ «اليوم التالى»، لما بعد انتهاء الحرب ضد غزة؟ هناك تصريحات للاستهلاك المحلى، ولمغازلة الرأى العام الإسرائيلى، أبرزها تصريحات، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذى فقد كثيرا من شعبيته، بسبب فشل التصور الذى تبناه، وروَّج له لسنوات، عن استحالة إقدام حماس على مهاجمة إسرائيل؛ ومن هنا، نفهم رفضه، الظاهرى، لكل السيناريوهات التى تتعلق بغزة بعد الحرب: «لن أسمح بأن تحل فتحستان (أى السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس فى رام الله) محل حمسستان»، «لن تكون هناك دولة فلسطينية»، «لن نسلم غزة لقوى خارجية»، «لن نخضع لضغط دولى بما فى ذلك من الولايات المتحدة الأمريكية». كثير من اللاءات الموجهة، فى الأساس، إلى الداخل الإسرائيلى، والدليل على ذلك، أن مجلس الأمن القومى الإسرائيلى، برئاسة تساحى هنجبى، المقرب من نتنياهو، وبالتعاون مع وزير الشئون الاستراتيجية، رون ديرمر، المقرب هو أيضا منه، يجرى منذ بضعة أسابيع سلسلة من النقاشات بهدف وضع خطة لمسألة السيطرة العسكرية، والسياسية، والمدنية فى قطاع غزة فى اليوم التالى للحرب؛ وأن رئيس المجلس، كتب مقالا (فى موقع «إيلاف» السعودى ــ ربما لربط السعودية بما يتبلور من حلول!) أشار فيه إلى شروط إسرائيل لإعادة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، مما يعنى أنه لا يوجد رفض إسرائيلى مطلق، من حيث المبدأ، لفكرة السلطة الفلسطينية، ولكن بعد «تطويرها وتحديثها»، كما يريد الأمريكيون. لكن الانطباع السائد، كما تقول، آنا بيرسكى («معاريف» 6/1/2024م) هو أن إسرائيل «تحاول بكل ما أوتيت من قوة تجنب الكشف عن خططها الحقيقية إزاء اليوم التالى». وإذا كان هناك تكتم على الخطط الرسمية، فإن سيل التصريحات من جانب كبار المسئولين الإسرائيليين بشأن هذا «اليوم التالى»، يكشف عن النوايا، وما يدور داخل الغرف المغلقة، من أبرزها، تصريح وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت («يديعوت أحرونوت» 4/1/2024م)، بأن إسرائيل «ستسعى للحفاظ على حرية العمل العسكرى (داخل القطاع)، وستشرف على البضائع، وسيكون الفلسطينيون مسئولين شرط ألا يكونوا معادين لإسرائيل»، فيما صرح وزير المالية وزعيم حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش («يديعوت أحرونوت» 4/1/2024م) بأن الحل فى غزة «يستوجب تفكيرا من خارج الصندوق وتغيير التصور عبْر تشجيع الهجرة الطوعية والسيطرة العسكرية الكاملة بما فى ذلك استئناف الاستيطان»؛ أما زعيم حزب «شاس»، أرييه درعى، الذى شارك بشكل دائم فى نقاشات مجلس الحرب فقد ألمح إلى أن النية الإسرائيلية تتجه إلى «البقاء فى قطاع غزة بقوات كبيرة لسنوات إلى أن نتأكد أن التهديد قد زال ولم يعد لزعماء حماس وجود»، («معاريف»، 11/1/2024م). ونستشف من التصريحات الثلاثة، أن هناك نوايا إسرائيلية لإعادة احتلال غزة عسكريا، وأن الحديث عن الانتقال إلى ما يُسمَّى بـ «المرحلة الثالثة» من الحرب يؤكد هذه النوايا، إذ أبقت إسرائيل، بعد انسحابها من شمال القطاع، على وجود عسكرى يسمح لها بتنفيذ عمليات محددة، وستفعل الأمر نفسه فى وسط وجنوب القطاع.
• • •
وإلى جانب تصريحات كبار المسئولين، فإن ثمة أفكارا، يتناقلها قادة الرأى، وتنشرها الصحافة الإسرائيلية، منها ما طرحته آنا بيرسكى («معاريف» 6/1/ 2024م.) بشأن عكوف إسرائيل على فحص قائمة من كبار المسئولين الفلسطينيين السابقين لاختيار واحد منهم توليه مقاليد الحكم فى غزة، من بينهم، محمد دحلان، وما طرحه البروفيسور آفى برئيلى، («يسرائيل هيوم» 10/12/2023م) ونوعم أمير («ماكور ريشون» 25/12/2023م) بشأن وجوب سيطرة إسرائيل على كل المعابر مع غزة، بما فى ذلك محور «فيلادلفى» ــ صلاح الدين ــ ومنها ما طرحه، عومر دوسترى، عضو حركة «الأمنيين» ــ حركة من كبار العسكريين السابقين ــ («يديعوت أحرونوت» 27/12/2023م) بشأن الاعتماد على سياسة المناورة، وعنصر الوقت، وفرض الحقائق على الأرض، والحلول المرحلية، التى ستجبر اللاعبين المنخرطين فى الصراع علي إيجاد حلول مرحلية، ربما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ ومنها ما أشار إليه جلال البنا («يسرائيل هيوم»، 27/12/2023م) من أن الحكومة الإسرائيلية لن تستطيع إدارة ظهرها للزعامة الفلسطينية، ولن تستطيع النظر إلى السلطة الفلسطينية بوصفها مقاولا من الباطن جُل نشاطه التنسيق الأمنى وتسيير أمور البلديات الفلسطينية، ومنها تحذير طوفا هرتسك، سفيرة إسرائيل السابقة فى دول البلطيق وجنوب إفريقيا («يديعوت أحرونوت»، 2/1/2024) من تجاهل فكرة إقامة دولة فلسطينية، مشيرة إلى أن ما يُسمَّى باتفاقيات أبراهام وكل الخطط المستقبلية من هذا القبيل لن تحل المشكلة: «إذا لم تكن هناك دولة فلسطينية، فماذا إذا؟ استيطان متسارع؟ ماذا سيكون رد الفلسطينيين أنفسهم على ذلك؟ ما تداعيات ذلك على صعيد الجماعة الدولية؟ بعد أن قيل لنا من الذى لن يحكم غزة، من سيحكمها إذا؟ هل هى إسرائيل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما المعنى؟». والحقيقة، أن ما أشارت إليه طوفا هرتسك، يضع النقاط على الحروف، إذ إن غياب أفق سياسى لن يحل المشكلة، حتى وإن احتلت إسرائيل قطاع غزة، كما أن تجاهل شعبية حماس وتجذرها داخل الجماعة الفلسطينية، سيُفشل، حتما، كل السيناريوهات والخطط المحتملة. وأغلب الظن، أن إسرائيل ستسعى إلى فرض هيمنتها العسكرية على القطاع فى المنظور القريب إلى أن تبلور بالتفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية حلا طويل الأمد.