اليوم الأول بعد المائة فى حرب 7 أكتوبر
معتمر أمين
آخر تحديث:
الخميس 18 يناير 2024 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن من المتصور طبقا لأى تقدير سابق على حرب 7 أكتوبر أن تتجاوز مدة المواجهة مائة يوم، فالتقديرات كانت دائما مبنية على قدرة إسرائيل على الحسم خلال أسابيع قليلة، لأن اقتصادها لا يتحمل استدعاء قوات الاحتياط لشهور طويلة. لكن خضعت هذه المعادلة لاختبار قاسٍ فى غزة، فلا استطاعت إسرائيل الحسم السريع، ولا استطاع اقتصادها الإفلات من الانكماش. ويجرى هذا التدهور أمام أعين الناس التى تتابع عن طريق منصات التواصل الاجتماعى المختلفة، والتى تنقل فيديوهات يومية تبثها المقاومة الفلسطينية عن عملياتها لاستنزاف جيش الاحتلال بطريقة أفقدته سمعته كقوة بطش، وأكسبته سمعة المحتل ذى السجل الإجرامى الذى يرتكب جريمة إبادة شعب يريد الحياة بكرامة مثل باقى شعوب العالم. وفى اليوم الأول بعد المائة تغيرت الحسابات التى كنا نظن أنها لا تتغير.
• • •
من الأمور التى تغيرت تراجع إسرائيل عن تعاليها وعدم اكتراثها بالقانون الدولى، وهى تمثل الآن أمام محكمة العدل الدولية لتدافع عن نفسها ضد تهمة الإبادة الجماعية فى حق الشعب الفلسطينى. وبهذا المثول تنتهى مقولة إن العالم له قانون دولى، وإسرائيل لها قانونها الدولى. ويقفز البعض على هذا التغير وكأنه بلا قيمة، كما يهول البعض من قيمة هذا التحول، وكأن المحكمة ستحكم بفناء إسرائيل. ولكن عمليا، ستفصل المحكمة فى ثلاثة أمور، وهى البت السريع فى طلب دولة جنوب أفريقيا التى حركت الدعوى بفرض تدابير حماية مؤقتة تلزم إسرائيل بوقف الحرب لحين الفصل فى الدعوى، والبت فى طلب إسرائيل بعدم نظر المحكمة فى الدعوى بحجة أنها الدولة التى وقع عليها الاعتداء ومن حقها الدفاع عن نفسها وليست قوة احتلال غاشمة، ثم مداولة وقائع القضية نفسها للفصل فى صحة الاتهامات. وغالبا ستستجيب المحكمة للطلب الأول خلال شهر على الأكثر، وترفض الطلب الثانى، بينما ستأخذ شهورا طويلة للفصل فى القضية.
يطرح هذا التغير أسئلة بلا إجابة شافية حتى الآن، لعل أبرزها، لماذا حركت جنوب أفريقيا القضية ولم تحركها السلطة الفلسطينية، أو أى دولة عربية أو إسلامية؟ ولماذا تنضم ألمانيا للمدافعين عن إسرائيل، ولا نجد من ينضم لجنوب أفريقيا دفاعا عن فلسطين؟ ومن المفارقات أن دولة ناميبيا تبادر بإعلان تأييدها لجنوب أفريقيا وتنتقد موقف ألمانيا، وذلك لأن ناميبيا عانت من ويلات الاحتلال الألمانى الذى اعترف عام 2004 بمجازره فى حق الشعب الناميبى فى الفترة 1904ــ1907.
• • •
كما تغيرت أو سقطت بعض الأساطير التى روج لها الاحتلال الإسرائيلى لعقود ونقلها عنه بعض المؤرخين والساسة العرب بدون تدقيق كافٍ، حيث قالوا إن الفلسطينيين باعوا أرضهم قبل عام 1948، وبالغ البعض فى حجم عمليات البيع حتى قالوا إن اليهود اشتروا نصف فلسطين! ثم اتهموا الفلسطينيين بالفرار من أرضهم فى نكبة 1948 أمام وحشية العصابات الصهيونية. وكل هذا افتراء إسرائيلى. أما الحقيقة، فإن كل ما اشتراه، وانتزعه، وحصل عليه اليهود من إجمالى أرض فلسطين منذ إتمام أول عملية بيع أثناء حكم محمد على باشا مرورا بفترة الاحتلال البريطانى لفلسطين منذ عام 1917 وحتى الإعلان عن قيام إسرائيل لم يتجاوز 6% من مساحة فلسطين. وإلى حضراتكم بيانها، 3% تم بيعها من قبل أرستقراطيين عرب من خارج فلسطين مثل عائلة سرسق اللبنانية وغيرها، والتى تسببت فى مواجهات شهيرة جرت فى فلسطين عام 1910ــ1911 عرفت باسم قضية الفولة. وباع بعض أثرياء فلسطين أراضى بحجم 2%، بينما باع الفلاحون أراضى بحجم 1%. ويختلف بيع الفلاحين عن بيع الأثرياء، فبينما كان الأثرياء يبيعون لوسطاء، ولا يدرى الكثير منهم حقيقة الجهة التى تشترى، فإن الأرض كانت تنتزع من الفلاحين لتسوية ديون التسليف الزراعى الذى كانت البنوك اليهودية تقف من خلفها.
أما عن أسطورة الفرار فى حرب الاستملاك عام 1948، فهى بذاتها تكرار لما يجرى الآن، حيث قاوم الشعب الفلسطينى تحت لواء قادة شعبيين مثل عبدالقادر الحسينى وغيره، وعاونهم بعض قادة الجيوش العربية مثل عبدالله التل الذى رفض الانصياع لأوامر قادته، وبعض قادة قوات الدفاع الشعبى العربية مثل البطل أحمد عبد العزيز، الذين استبسلوا جميعا ومنعوا سقوط القدس. ولولا تواطؤ بعض الحكام العرب لتغيرت نتائج حرب 1948.
ولنقارن ذلك بما يحدث فى فلسطين الآن، حيث المقاومة تستبسل فى المواجهة وتكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة لا يستطيع على إثرها أن يزيف الحقائق أو يدعى تحقيقه لأى نصر عسكرى، كما أن الشعب الفلسطينى صامد وعازم على العودة لدياره فى شمال غزة. فهل اختلف تمسك الشعب الفلسطينى الآن بأرضه عن السابق؟ وهل اختلفت عقيدته الدفاعية عما بذله من قبل إعلان بلفور وحتى الآن؟ وهل اختلفت مواقف بعض الحكام العرب؟
• • •
أمر آخر تغير بسبب صمود المقاومة، وهو توسيع دائرة المواجهة إقليميا بالرغم من حالة الاستنفار الأمريكية لمنع توسع الحرب. وفى هذا السياق يقوم "أنصار الله " فى اليمن بدور رأس الحربة التى تغير عناصر المعادلة، وذلك بعد استهدافهم للسفن التى تتعامل مع إسرائيل، وإصرارها على الهجوم بالرغم من الضربات الأمريكية ــ البريطانية الموجهة لعدة مدن يمنية. وقد يفسر موقفهم أنهم اعتادوا على التعامل مع الضربات الجوية المكثفة بعد سنوات من المواجهة الطويلة ضد السعودية، كما أن استهداف الولايات المتحدة وبريطانيا يرسخ دور أنصار الله الإقليمى، ويزيد من شرعيتهم داخل اليمن. وبالرغم من أن الولايات المتحدة تفعل كل ما بوسعها لتنفى الصلة بين استهداف أنصار الله وبين الدفاع عن إسرائيل، فإنها لا تفصح عن سبب آخر وراء إطلاق عملية «حارس الازدهار» المكونة من 10 دول، ليس منها دولة واحدة مطلة على البحر الأحمر. وتتعلل الولايات المتحدة بالدفاع عن حركة التجارة العالمية، بينما مسار عملياتها يضيق على طريق الحرير البحرى المنافس لمشروع ممر الهند ــ أوروبا عبر إسرائيل والذى تعطل العمل فيه بعد حرب 7 أكتوبر، علما بأن طريق الحرير البرى من الصين إلى أوروبا ما زال معطلا بسبب أزمة أوكرانيا.
فى هذا السياق، اعترضت روسيا على الضربات الأمريكية ضد اليمن، وطلبت عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث المسألة، وهو ضغط سياسى روسى ضد الولايات المتحدة له ما بعده. فقد تكون روسيا تأمل فى تورط الولايات المتحدة عسكريا فى جبهة اليمن، بالإضافة إلى أوكرانيا، وغزة، ليسهل على روسيا تصفية حساباتها معها.
• • •
إذن، تقدير الموقف بعد مائة يوم من الحرب، تشير إلى ثلاث حقائق، أولها، تدهور إسرائيل على الصعيد الدولى، والإقليمى، والميدانى، وثانيا تقدم القضية الفلسطينية بعد طول تهميش، مع فرض المقاومة إرادتها كطرف شرعى فى ظل صمود الشعب الفلسطينى، وثالثا اختلاف تقييم بعض المجتمعات العربية والغربية لحقيقة ما يجرى فى فلسطين وما يجب فعله عن الرؤية الرسمية التى تعلنها حكومات الدول.