رحيل مستعرب عملاق.. بدرو مارتينث مونتافث
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 18 فبراير 2023 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
غادر الدنيا يوم الثلاثاء 14 فبراير مستعرب إسبانى نادر وعظيم هو الأستاذ بدرو مارتينث مونتافث. عارفو قدره من تلاميذه ومن دوائر الاستعراب فى إسبانيا وفى غيرها، ومن المثقفين الإسبان عموما، أودعوا آيات تقديرهم له فى الصحافة الإسبانية الصادرة فى اليوم التالى وما بعده من أيام، وفى وسائط التواصل الاجتماعى الإسبانية وغيرها. ليس أقل من أن يختص مقال رأى فى صحيفة عربية مصرية باستعراض الحياة الأكاديمية والعملية لبدرو مارتينث، هو الذى كرسهما للأدب والواقع العربيين، بادئا هذه الحياة فى مصر ومتأثرا بها عميق التأثر.
درس بدرو مارتينث التاريخ وفقه اللغات السامية فى جامعة مدريد، متخرجا منها فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى. فى العام التالى جاء إلى القاهرة بمنحة متواضعة من الحكومة الإسبانية لاستكمال أبحاثه لنيل درجة الدكتوراه وتولى فى الوقت نفسه إدارة المركز الثقافى الإسبانى من موقعه فى وسط مدينة القاهرة، وهو المركز الذى ورث نشاطه فى الوقت الحالى معهد ثرفانتس. كانت الدراسة فى بلد عربى غير المغرب فى ذلك الزمان بعيدة المنال، ما جعل واحدا من تلاميذ بدرو مارتينث، وهو ينعيه، يصفه بالمستعرب المشرقى. فى القاهرة أيضا، انضم إلى قسم اللغة الإسبانية، أستاذا لها، فى كلية الألسن التى انضمت إلى جامعة عين شمس. بقى بدرو فى القاهرة لمدة ست سنوات حتى سنة 1962، وليس أدلّ على الأثر الشخصى للقاهرة فيه من أن ثلاثةً من أبنائه وبناته ولدوا فيها. مجال رسالته للدكتوراه كان الحياة الاقتصادية فى مدينة القاهرة فى القرون الوسيطة. على الرغم من أن رسالته للدكتوراه كانت فى علم التاريخ، فإنه ومنذ وجوده فى القاهرة، اتجه بدرو مارتينث إلى دراسة الأدب العربى. هو يحكى فى مقابلة معه فى جامعة غرناطة فى الستعينيات من القرن الماضى كيف أنه قطع شوارع القاهرة عندئذ طولا وعرضا، سمع أصواتها وشم روائحها وتعرف على واقعها، دنياها ودنيا ناسها. وفى القاهرة أيضا، ومنها، تعرف على الأدب العربى المعاصر، فتأسست بذلك قاعدتا حياته الأكاديمية والعملية. سنعود إلى ذلك بعد برهة نستغلها لنشير إلى أثر شخصى آخر تركته فيه المعيشة فى بلد عربى. بدرو مارتينث من مواليد مقاطعة خاين، أو جيان بالعربية، فى الأندلس. فى المقابلة المذكورة، ذكر أنه لم يكن إلا أندلسيا عن بعد، فلقد غادر الأندلس مع والده وهو طفل صغير بعد نهاية الحرب الأهلية الإسبانية فى سنة 1939 واستقر فى مدريد حيث خاض مراحل تعليمه الواحدة بعد الأخرى. أعاد بدرو اكتشاف أصوله الأندلسية فى حياته القاهرية مسترجعا صور طفولته وأحاسيسها. هذا الاسترجاع هو القاعدة الثالثة للحياة الأكاديمية والعملية لبدرو مارتينث مونتافث.
فى نهاية الخمسينيات فى القاهرة، كان بدرو من أوائل النقاد غير العرب، إن لم يكن أولهم، ومن المؤكد أول الدارسين الإسبان، فى إجراء مقابلة مع نجيب محفوظ. لأننا نعرف الآن تاريخ نشر الثلاثية، العمل العلامة لكاتبنا المبجل، فإننا ندرك أن بدرو مارتينث قرأه فور نشره وقابل مؤلفه ثلاثين عاما قبل أن تمنحه الأكاديمية السويدية جائزة نوبل فى الآداب. فى القاهرة تعرّف بدرو مارتينث على صلاح عبدالصبور وتذكر كيف أمضى معه ومع أصدقاء آخرين خمس ساعات لا تنسى لدى نهاية الخمسينيات يتحدثون فى الشعر والأدب عموما، وفى الفن. من القاهرة سافر إلى سوريا والعراق وفلسطين، وفيها ومنها تعرف على نزار قبانى وعبدالوهاب البياتى ومحمود درويش وغسان كنفانى.
• • •
بعد عودته إلى إسبانيا، درّس بدرو مارتينث فى جامعة مدريد، التى كان قد تخرج فيها، ثم انتقل فى النصف الثانى من الستينيات، أستاذا، إلى جامعة إشبيلية، فى الأندلس من جديد، وأخيرا، استقرّ به المطاف فى بداية السبعينيات أستاذا فى جامعة مدريد المستقلة، ثم رئيسا لقسم اللغة العربية والإسلام فيها، ثم عميدا لكلية الأداب، ثم رئيسا للجامعة. لم يحدث لمستعرب من قبل أن أرتقى المراتب الجامعية حتى أصبح رئيسا لجامعته. جامعة مدريد المستقلة شهدت الإنتاج الأكاديمى الهائل لبدرو مارتينث مونتافث وخوضه الحياة العملية، فضلا عن دوره الجامعى ومصاحبته للتطور الديمقراطى فى إسبانيا فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
كان تركيز الاستعراب حتى ذلك الوقت منصبا على اللغة العربية كلغة كلاسيكية وعلى الأدب العربى القديم والوسيط ودرره من أمثال طوق الحمامة لابن حزم، أو الشعر الصوفى لابن عربى، الأندلسيين كليهما، اللذان عاشا فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر الميلاديين. حياته فى مصر جعلت بدرو مارتينث يقول إن العرب يعيشون حياة اليوم، وأن لغتهم ليست لغة كلاسيكية كاللاتينية أو الإغريقية بل لغة حية ينتجون بها أدبا وفكرا، يعبر عن واقعهم، الذى خبره فى القاهرة وغيرها من المدن العربية، وعن مشكلاتهم وتطلعاتهم. كان الأدب والفكر العربى الحديثان هامشيين فى الاستعراب الإسبانى، بل وفى الاستعراب الغربى عموما، فصارا قلب العمل البحثى الأكاديمى عند بدرو مارتينث وعند المدرسة التى نشأت على يديه. سبق الاستعراب الإسبانى، كما عبّر عنه بدرو مارتينث وتلميذاته وتلاميذه، غيره من مدارس الاستعراب الغربية فى البحث والنشر عن الأدب العربى المعاصر وفى تحليل الفكر العربى المعاصر أيضا. تلميذه المشار إليه أعلاه ذكر أن بدرو مارتينث كان يتحدث فى محاضراته ويتحدث كثيرا عن طه حسين. هو ترجم لكل الشعراء المذكورين آنفا ونشر ترجمات دواوينهم. وهو كتب أيضا وترجم عن توفيق الحكيم، وبدر شاكر السياب، وفدوى طوقان، وأدونيس، وجبران خليل جبران، وغيرهم كثيرون. أنظر لبعض عناوين دراساته المنشورة التى تفوق المائة والثلاثين دراسة من بينها أكثر من عشرين كتابا، القليل منها فقط شاركه غيره فى تأليفها: مقدمة فى الأدب العربى الحديث؛ وصف قادش الإسبانية العربية؛ الموال المصرى كتعبير عن الأدب الشعبى؛ النقاش حول القومية العربية والقوميات المحلية؛ مقالات فى النقد الأدبى: طه حسين؛ الشعر العربى فى الوقت الحالى؛ كتابات عن الأدب الفلسطينى؛ تجربتى الشعرية: عبدالوهاب البياتى؛ 15 قرنا من الشعر العربى، الشعر العربى المشرقى، والشعر العربى الأندلسى، والشعر العربى المعاصر؛ غزال الأندلس؛ الأندلس: إسبانيا فى الأدب العربى المعاصر؛ التفكر فى تاريخ العرب؛ الأندلس كمعنى وكرمز.
لم يكتف بدرو مارتينث بالدراسة ولكنه نشر ما درسه، وكذلك أصدر مجلة أطلق عليها اسم «المنارة»، الكلمة العربية التى دخلت الإسبانية، لتحمل دراساته ودراسات غيره إلى قراء الإسبانية فى إسبانيا وأمريكا اللاتينية. ثلاثة اجتمعوا على تأسيس المجلة: بدرو، ومستعرب عربى آخر هو سلفادور جومث نوجالس، وثالثهما المرحوم الدكتور حسين مؤنس، الأستاذ المؤرخ العتيد، الذى كان عندئذ مديرا للمعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد، ذلك المعهد الذى كان طه حسين قد افتتحه إبان توليه وزارة المعارف فى سنة 1951. مصر والمصريون موجودون دائما فى المراحل المفصلية فى حياة بدرو مارتينث مونتافث.
• • •
وهو كان مثقفا إيجابيا ونشطا فى المجال العام. اشترك فى الندوات والمؤتمرات وكتب فى الصحافة وظهر فى التلفزيون مناصرا للقضايا التى اعتنقها ومدافعا عن حقوق أصحابها. كان بدرو مارتينث مدافعا صلدا عن القضية الفلسطينية وداعية لها. عندما سحبت إسبانيا قواتها من العراق فى سنة 2004، هنأ الحكومة الإسبانية على قرارها. وهو عموما كان لسانا نصيرا للعرب فى كل ما مرّ بهم من محن. انظر كيف انعكس ذلك فى آيات تكريم تلقاها. كان رئيسا لجمعية الصداقة العربية الإسبانية، ورئيسا لجمعية أصدقاء الشعب الفلسطينى، ورئيسا للجمعية الإسبانية للدراسات العربية، وعضوا بمجمع اللغة العربية الأردنى. وفى سنة 2008، اختير شخصية العام الثقافية وحصل على جائزة الشيخ زايد. أسرّ بدرو لكاتب هذا المقال أنه علم أن من رشحه للجائزة مصرى آخر هو المرحوم الدكتور صلاح فضل، وهو كان من كان فى حقل الدراسات الإسبانية.
فى الشئون الإسبانية البحتة كان بدرو أول رئيس منتخب لجامعة إسبانية فيما بين سنتى 1978 و1982، مصاحبا بذلك التطور الديمقراطى بعد وفاة الجنرال فرانكو. بدرو مارتينث أدخل التطور الديمقراطى فى جامعة مدريد المستقلة نفسها بإنشاء جمعيتها الأكاديمية، وهى مجلس شيوخ الجامعة فى الجامعات الأمريكية، التى تناقش كل أمور الجامعة، وبإدخال نظام تقويم الطالبات والطلبة لأساتذتهم، وبتشجيع التعدد الفكرى فى الجامعة. التقدير لبدرو مارتينث صدر عن إسبانيا نفسها فهو، فضلا عن المناصب الأكاديمية التى تولاها، حصل على الميدالية الذهبية لمجلس الأندلس، وأعلنه مسقط رأسه مواطنا فخريا له وأطلق اسمه على الشارع الذى ولد فيه.
لو قرأ بدرو مارتينث هذا المقال لما أعجبه أى إطراء له فيه ولأنكر التعملق المنسوب إليه فى عنوانه. هو كان يظن أنه يفعل ما يجب عليه أن يفعله، ليس إلا. تواضع العلماء وإصرارهم. من حسن طالعنا أنه إصرار صبّ فى مصلحتنا، نحن العرب. أصدقاء بدرو مارتينث من الدكتور حسين مؤنس إلى الدكتور الطاهر مكّى إلى الدكتورين جابر عصفور وصلاح فضل ودعوا الحياة منذ فترات متباينة. لعل أجيال الباحثين اللاحقة عليهم ممن درسوا فى إسبانيا وعرفوا الاستعراب الإسبانى ينظمون لذكرى بدرو مارتينث التكريم الذى يليق به.
لقد أثرتنى المودة بيننا فى عشرات السنين الماضية. سلام عليك أيها الصديق العزيز.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة