الماضى.. وإن زاهيًـا.. لن يعـود

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 19 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

يبهرنى دائما منظر الصينيين إذا اجتمعوا، قد لا أنبهر برؤية أوروبيين أو عرب أو أفارقة مجتمعين، ولكن يغمرنى الانبهار كل مرة شاهدت فيها حشدا من الصينيين فى مطار أو مؤتمرا للحزب الشيوعى الصينى أو دخلت إلى مطعم من المطاعم الشعبية فى هونج كونج أو بكين أو لندن يقدم أطباقا صينية، ومكتظ بطبيعة الحال بزبائن صينيين.


بلغ الانبهار أقصاه خلال رحلة فى الصين ضمن وفد من مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية برئاسة الأستاذ محمد حسنين هيكل. تضمن جدول الرحلة زيارة مدرسة، أو لعلها كانت مصحة، لتلقين كبار موظفى الدولة والحزب أصول ممارسة النقد الذاتى. دخلنا إلى قاعة يجلس فيها عدد هائل من البشر يمثلون مختلف الأعمار يرتدون جميعا زيا واحدا، البذلة الزرقاء التى لا تكشف عما تحتها وهو كثير جدا للوقاية من البرد، وهى التى ساهمت مساهمة فعالة فى إلغاء التمييز بين الرجل والمرأة فى الصين، فالبذلة واسعة وكثيفة التبطين، فضلا عن أن النساء لا يضعن مساحيق، وأكاد أجزم بأننى لم أقابل فتاة أو امرأة صينية تضع مساحيق خلال الشهور العديدة التى قضيتها فى الصين فى بداية حياتى العملية. ساعد على إلغاء الفوارق بين الجنسين أن منظومة أخلاق الحزب كانت تفرض على نساء الصين تقصير شعرهن وتسطيح صدورهن، وفى حال تجاوزت واحدة منهن حدود هذه المنظومة الأخلاقية أرسلوها إلى مكان تمارس فيه العلاج بالنقد الذاتى.

 

●●●

 


تغيرت الصين وتعددت الأزياء ولم يزل انبهارى قويا بكل حشد صينى. عاد الانبهار وأنا أقضى ساعة أو أكثر منذ أيام أتابع على شاشة التلفزيون أعمال مؤتمر نواب الشعب الصينى. أعلم منذ أيام الرئيس ماو تسى تونج، أن هذا المؤتمر لا يقدم أو يؤخر، فهو حسب قواعد ودستور النظام السياسى الصينى لا يزيد عن كونه «برلمان» يجتمع مرة كل سنة لمدة عشرة أيام يصدق خلالها على مشروعات القوانين المعدة سلفا ويستمع إلى تقارير المسئولين وينتهز أعضاؤه فرصة الوجود فى بكين للقيام بزيارات سياحية فى أنحاء العاصمة ويتبادلون الهدايا ويلتقطون الصور مع المواطنين.


تذكرت حالات الانبهار السابقة وأنا أرى على الشاشة آلاف النواب تكتظ بهم قاعة هائلة الاتساع. الرجال ،وهم الغالبية الساحقة، يرتدون أطقما أوروبية غامقة اللون وتحتها قمصان بيضاء ناصعة وربطات عنق تناسب الظرف. وكلهم وفيهم قيادات تجاوزت السبعين، يحملون شعرا حالك السواد لامعا، والنساء وغالبيتهن من أعمار فوق المتوسط يضعن مساحيق.

 

●●●


توقعت، بعد ما سمعت وقرأت عن التحولات الكبرى التى جرت فى الصين، أن يختلف هذا المؤتمر عن المؤتمرات السابقة. فهو ينعقد فى ظروف غير عادية يدرك الصينيون مغزاها وينتظر العالم الخارجى تداعياتها. للمرة الأولى، منذ وقت طويل، تبدو القيادة السياسية الحاكمة فى الصين مهددة بانقسامات خطيرة، وفى وقت دقيق للغاية، يشهد هذا العام عملية تغيير القيادة الحاكمة من جيل إلى جيل، ويشهد أيضا اجتماع عدد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وجميعها تحتاج حلولا وإجراءات عاجلة، بعضها قد يكون أيديولوجى الطابع والمحتوى. وللمرة الأولى كذلك، ينتهز رئيس الدولة فرصة التقاء المؤتمر ليوجه رسالة إلى الأمة الصينية يحذر فيها من أن البلاد تتعرض لتهديد بالغ الخطورة، وهو الانزلاق إلى ثورة ثقافية ثانية، كالثورة التى أشعلها الرئيس ماوتسى تونج فى عام 1966 للتخلص من عناصر معينة فى البيروقراطية وفى الحزب وفى النخبة المثقفة وراح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين.


كان المفهوم عند المتابعين للشئون الصينية أن تيارا محافظا فى الحزب بدأ يبرز مستمدا الدعم المعنوى من الجيش. لا يخفى أنصار هذا التيار رأيهم أن الفساد استشرى فى البلاد وأن الجريمة المنظمة تستنزف طاقة الشعب وتسرق إنجازاته وأن سوء إدارة عملية توزيع الثروة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء تستدعى سرعة تنفيذ إصلاحات اجتماعية وزيادة الإنفاق على قطاعات الرعاية والصحة. كان المفهوم أيضا أن سكرتير الحزب فى محافظة شونكينج أقدم على اتخاذ إجراءات فى محافظته أقرب ما تكون إلى الإجراءات التى اتخذها ماو تسى تونج لاقتلاع الفساد وتطهير الصين خلال الثورة الثقافية.


الجديد فى أمر هذا المحافظ واسمه بو جيلاى، أنه لم يعد يخفى طموحه السياسى وصار اسمه مطروحا ضمن المرشحين لتولى قيادة الحزب والدولة فى نهاية هذا العام، خاصة الروايات التى يجرى تناقلها حول نجاحه فى تحسين أحوال الفقراء فى المحافظة وهى الروايات التى صنعت له شعبية فى محافظات أخرى عديدة.

 

●●●

 


لا يجادل كثيرون فى الصين وخارجها حول ضرورة إدخال إصلاحات سياسية والسماح بدرجة أعلى من الديمقراطية وحرية التعبير وتشكيل أحزاب وجمعيات أهلية. هذه الإصلاحات وإن أخذت صفة التضحيات من جانب النخبة الحاكمة أفضل لها وللمواطنين والاقتصاد الصينى من البديل، وهو ثورة ثقافية ثانية تطيح بالإنجازات التى حققتها الصين خلال الثلاثين عاما الأخيرة. لا ينسى أحد أن ثورة ثقافية تعنى فى حقيقة الأمر القضاء على طبقة سياسية وطرح طبقة بديلة، ولما كانت شعبية «بو» سكرتير الحزب فى شونكينج تتصاعد بشكل مستمر وطموحاته لم تعد خافية، ومنها أن ينضم إلى اللجنة الدائمة المتفرعة عن المكتب السياسى، وهى أعلى سلطة سياسية فى النظام، وتضم تسعة سياسيين ينتخبهم من بين أعضائه المكتب السياسى الذى يتكون من خمسة وعشرين عضوا، «بو» أحدهم، كان لابد أن يتخذ القادة قرارا فى شأن زميلهم الذى يمكن أن يصبح بؤرة تجتمع حولها كل القوى المتضررة من التقدم الاقتصادى والقوى المحرومة من النفوذ. وبالفعل ما إن انتهت جلسات البرلمان حتى أعلن إعفاء «بو» من منصبه كسكرتير للحزب فى شونكينج وتحديد محل إقامته.

 

●●●

 


وفى محاولة غير مسبوقة لتعبئة الرأى العام فى الحزب والدولة للتخلص من «بو» كمنافس خطير خرج « وين جيباو» رئيس الوزراء، والطامح إلى منصب الرئاسة خلفا للرئيس «هو جينتاو» يقول فى خطاب طويل وبكلمات قوية، إن تداعيات خطأين سجلهما التاريخ الصينى يهددان مستقبل الصين، أحدهما خطأ الثورة الثقافية وأفكارها وثانيها خطأ نظام الإقطاع وأفكاره، وأن لا ضمان لمستقبل آمن فى الصين إلا باجتثاث بقايا الخطأين.


نبه وين جيباو إلى أن الصين تقف الآن على مفترق طرق خطير، وهو التنبيه الذى وجد ترحيبا لدى بعض المحللين فى الغرب الذين يؤكدون منذ شهور أن الصين دخلت مرحلة انكماش اقتصادى ولكنه الانكماش الذى لن يحول دون وصولها إلى مكانة الدولة «الأكبر» اقتصاديا فى عام 2020، وعندئذ ستكون مسئوليتها العالمية فائقة وقد لا يتحملها نظامها السياسى إذا لم تسرع نخبتها الحاكمة خلال السنوات القليلة القادمة فى تطوير و«إصلاح» سياستها الخارجية والداخلية إلى ما يتناسب ومكانة الصين الاقتصادية.

 

●●●

 


تعودنا أن نقارن بين حالنا وحال أمم غيرنا. نجد ما يعجبنا فنحلم باستنساخه. لا أجد فى الأحداث الجارية على قمة السلطة فى الصين ما يصلح لتقليده فى مصر. هناك وفى يوم من أيام عام 1933 قرر زعيم الثورة أن ينشئ مدرسة تابعة للحزب الشيوعى تكون وظيفتها تدريب الكوادر الشابة على الحكم وإدارة شئون الحزب والدولة. مات الزعيم وخلفه فى قيادة الحزب وإدارة البلاد زعيم آخر وثالث ورابع وتغيرت عقيدة الحزب والطبقة الحاكمة وتغيرت خريطة الطبقات تحت إشراف عشرات الملايين من القادة وكلهم، بدون استثناء، تخرجوا فى هذه المدرسة، ولا أحد لم يتخرج منها راوده حلم الوصول إلى المراكز العليا للدولة، ولا أحد بدون تجربة فى إدارة المحليات والإشراف على مؤسسة من مؤسسات الحزب أو الدولة يسمح له ويترشح لمنصب رئاسة الحزب. أعرف أن فى فرنسا تقليدا فى تجنيد واختيار القادة قريب من التقليد المعمول به فى الصين.


أكثر ما يقلق مجموعة حاكمة هو أن يصعد شخص أو جماعة أو قوة سياسية ترفع شعارات تمت بصلة إلى أمجاد الماضى وعظمته. ولا خطأ فى رأيى يمكن أن ترتكبه مجموعة حاكمة أخطر من خطأ تقديم الوعود للشعب باستنساخ الماضى أو إحيائه.


نقرأ ونسمع عن ممارسات الظلم والقمع والاستبداد والفساد فى عهود كان الظن السائد أنها عهود خير وسعادة وعدالة. حاول «بو» أن يبعث إلى الحياة عهد الرئيس ماوتسى تونج متجاهلا أن فى الصين، وفى القيادة السياسية بالذات، أحياء يذكرون قسوة الحياة ووحشية الحكم فى ذلك العهد. أيصدق حقيقة هؤلاء الذين يحلمون ببعث حقبة أو عهد من الماضى أنهم بذلك يرسون دعائم نهضة وتقدم ومنعة، أم أنهم يضيعون وقتهم، وأهم من وقتهم وقت الأمة ويبددون مستقبلها. يستحيل أن يعود الماضى فى الشكل الذى عاش فيه، وسيكون مكلفا للغاية إنسانيا وحضاريا لو عاد متخفيا فى شكل آخر.


لن ألبس جلبابا كان يلبسه غيرى عاش قبل عقود أو قرون على أرض ليست أرضى وبين أهل غير أهلى وقوم غير قومى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved