أساطير الأولين
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 18 مارس 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
رغم ندرته فى الأدب الجاهلى، ومحدودية تداوله فى لغة الضاد، وقتذاك؛ عمدت العرب إلى استعارة مصطلح «الأساطير» من فضاءات معرفية وبيئات ثقافية مغايرة. وذلك بغرض استخدامه فى إنكار بعثة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وتشويه رسالته؛ عبر نعتهما «أساطير الأولين». وهو الوصف، الذى أورده المولى، عز وجل، فى غير موضع، بكتابه العزيز؛ فيما توافق جمهور المفسرين على أنه ينصرف إلى «أكاذيب السابقين».
ففى الآية الثالثة عشرة من سورة المطففين، يقول، الحق تبارك وتعالى: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية الرابعة والعشرين من سورة النحل: «وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين». وفى الآية الخامسة والعشرين من سورة الأنبياء، «وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية الحادية والثلاثين من سورة الأنفال: «وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية الثالثة والثمانين من سورة المؤمنون: «لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية الثامنة والستين من سورة النمل: «قَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية السابعة عشرة من سورة الأحقاف: «فَيَقُولُ مَا هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». وفى الآية الخامسة من سورة الفرقان: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».
وفى تفسير تلك الآية الأخيرة، يقول أهل التأويل: هى أحاديث الأولين المسطرة فى كتبهم، استنسخها، محمد، صلى الله عليه وسلم. فهى تُقْرَأ عليه صباحًا ومساءً، فيحفظها ويتلوها على الناس، مدعيا أنها نزلت عليه من السماء. وتتعانق الدلائل الدامغة على بطلان تلك الافتراءات. فمن المعلوم بالتواتر والضرورة، أن خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم، قد ظل، حتى مماته، أميا لا يقرأ ولا يكتب. وقد نشأ بين أظهر قريش منذ مولده حتى بعثته نحوا من أربعين سنة؛ وهم يعرفون مدخله، مخرجه، صدقه، بره، أمانته ونزاهته من الفجور وسائر الرذائل والموبقات. حتى إنهم لم يكونوا يسمونه، منذ صغره إلى أن بعث، سوى «الصادق الأمين»؛ لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به من النبوة والرسالة، ناصبوه العداوة، ورموه بهذه الأباطيل والافتراءات، التى لا يشكك أى عاقل أو منصف، فى براءته منها.
أورد، ابن منظور، فى «لسان العرب»، قول، الزَّجَّاج، فى تفسير عبارة «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»؛ بأنها خبر لابتداء محذوف. فالْمَعْنَى: وقالوا ما جاء بِه أَساطير الأولين، معناه سَطَّرَه الأَولون. ويقول الطبرى: هى أحاديث الأولين وأباطيلهم. قال ذلك قوم من مشركى العرب، كانوا يقعدون بطريق من أتى النبى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين، قاصدا إياه، قالوا لهم: «أساطير الأولين»، بمعنى: أحاديث الأوّلين وأكاذيبهم. أى إذا سمع كلام الله من الرسول يكذب به ويظن به، ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل ومجموع من كتب الأوائل. وفى تفسيره لهذه الآية، يقول، ابن عاشور: إنه الوليد بن المغيرة، الذى اختلق هذا البهتان فى قصة معلومة؛ فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان، وأعجبوا به، طفقوا يرددونه.
لغويا، تبدو «الأسطورة»، تعريبا جاهليا لكلمة يونانية historia، وإنجليزية، Myth: وهى تفيد معانى: الإخبار، السرد، الحكاية، القصة، والخرافة. ويقول، ابن فارس، فى مُعجم «مقاييس اللُغة»: «الْأَساطير، أشياء كُتِبَت من الباطل، فَصار ذلك اسما لها، مخصوصا بِها». ويقول، الخليل، فى كتاب «العين: «سَطَّر فلان علينا تسطيرا، إذا جاء بأحاديث تُشبه الباطل. والواحد من الأساطير، إِسطارة وأُسطورة؛ وهى أحاديث لا نظام لها بشىء. وسَطَّرَها: أَلَّفَها من عندياته. وتعرف الأسطورة، كذلك بأنها القصص القديمة للأولين، كما تشير إلى نص علمى من اللاوعى الجمعى، يستهدف تقديم إجابة لتساؤل معرفى.
ليست الأسطورة إنتاجا فكريا فرديا، بقدر ما تعد محصلة خيال جمعى، يعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها. لذا، اعتبر اختصاصيون الأسطورة شكلا من أشكال الأدب الرفيع؛ كونها قصة تقليدية ثابتة نسبيَّا، مُصاغة فى قالب شعرى، يساعد على ترتيلها وتداولها، شفاهة، بين الأجيال. وأحيانا ما كانت تكتسى الأسطورة سمتا مقدسا، ولا تُشير إلى زمن مُحدد، بل إلى حقيقة أزلية، فى زمن مضى. وهى تتناول موضوعات شمولية كبرى، مثل: الخلق، التكوين، أصول الأشياء، الموت، العالم الآخر؛ ومحورها الآلهة أو أشباهها. بينما يكون دور البشر فيها مكملا، لا مركزيا.
أما مصطلح «ميثولوجيا»، والذى تُرجم إلى «علم الأساطير»، أو «علم دراسة الأساطير»، فيشير إلى فرع من فروع المعرفة، يُعنى بدراسة الأساطير وتفسيرها. وشأنه شأن سائر العلوم الإنسانية، تأسس هذا العلم فى القرن التاسع عشر. أمَا الدراسات، التى تختص بمقارنة الأساطير من ثقافات مختلفة، فى محاولة لتحديد الخصائص المشتركة، فتعرف بعلم الأساطير المقارنة، أو «الميثولوجيا المقارنة»
قديما، وفى غياب المنهج العلمى، لعبت الأسطورة دورا محوريا فى تفسير الأحداث والوقائع. باعتبارها نموذجا عقلانيا تاريخيا، يعكس واقعا ثقافيا معينا، أنشأه العقل البشرى لتوصيف وفهم الأحداث، كما تتراءى له، فى لحظة تاريخية محددة. وهكذا، باتت الأسطورة أقرب إلى «النموذج المعرفى»، الذى أشار إليه، توماس كون، عام 1962، فى سفره الأشهر، «بنية الثورات العلمية». وفى مؤلفها المعنون: «تاريخ الأسطورة»، الصادر عام 2008، تقول، كارين آرمسترونج: «إن الميثولوجيا، بوصفها صياغة فنية، تبقى قادرة على الإشارة إلى ما وراء التاريخ، وإلى ما هو غير زمنى فى الوجود البشرى. كما تساعدنا فى التعرف على ما وراء التدافع الفوضوى للأحداث العشوائية، وفى تبصر جوهر الحقيقة. فلقد قدمت الأساطير تفاصيل، من حيث الشكل والصياغة، عن الحقيقة التى يتحسسها الناس بحدسهم وغريزتهم. وهى ذات النظرة الأسطورية للتاريخ من لدن أصحاب الفلسفات المثالية، على شاكلة: شبنغلر، وتوينبى. ومن ثم، يمكن القول إن الأسطورة، فى الأصل، نموذج معرفى يتشكل أثناء سعى العقل سبر أغوار الواقع». ويرى خبراء أن النماذج المعرفية، بوصفها محاولة من العقل لتفسير الواقع عموما؛ تشترك مع الأساطير فى جذورها. بل إن تلك النماذج تتحول إلى أساطير، عند غياب التوظيف المعرفى للفكر العلمى، وسيادة الفكر الحدسى. كذلك، تتحول النماذج العقلية للتاريخ، إلى أساطير نتيجة لغياب النهج العلمى التاريخى، وهيمنة الحدس والعاطفة، التى تجيشها خصوصية وذاتية التاريخ؛ خصوصا إبان الظروف الاستثنائية للأمم.
رغم انحسار الطابع الأسطورى للنماذج المعرفية إثر تعاظم سطوة العلم؛ يذهب باحثون إلى أن الأسطورة لم تكن حكرا فقط على المراحل البدائية للحضارة الإنسانية. إذ لا تزال كامنة فى ثنايا النماذج المعرفية الحديثة، التى نتصورها لتفسير واقعنا المعاصر؛ مع اختلاف بنية وشكل أسطورة هذا الزمان عن مثيلاتها فى أزمان غابرة. فقد يتم استبدال الرموز الإلهية فى الأساطير القديمة بأخرى بشرية تاريخية، أو أكثر مادية، مستعارة من العلوم الطبيعية. وما برحت أقوام فى بيئات، شبه بدائية، تلجأ إلى الأسطورة، لتفسير ما يعجز نموذجها المعرفى عن فك طلاسمه. وبناءً عليه، يرى مؤرخون أن الأسطورة قد عكست، فى فجر الحضارة، نموذج الإنسان البدائى المفترض لتفسير العالم، فهمه، وتحديد مكانته فيه، وبلورة هويته الإنسانية. وبينما يعاد تشكل الوعى التاريخى لدى إنسان زماننا الحالى، تغدو الأسطورة تعبيرا عن الوحدة الشاملة بين وبين عالمه، وتاريخه؛ كما تشكل إطارا تعريفيا لهويته الحضارية.