العقاد عن الشخصية المصرية (1 من 2)
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 مارس 2025 - 8:09 م
بتوقيت القاهرة
يعتقد الناس أن الحديث عن الشخصية المصرية عبَّر عن نفسه بوضوح فى مؤلفات نعمات أحمد فؤاد، وحسين مؤنس، وجمال حمدان، وذلك فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
الحقيقة أن أحد الآباء الشرعيين الكبار للحديث عن الشخصية المصرية بشكل واضح هو عباس العقاد، قبل ثلاثة أو أربعة عقود من ظهور مصطلح شخصية مصر والشخصية المصرية فى الفكر المصرى المعاصر.
والطريف أن العقاد لم يكن يتناول الشخصية المصرية فى كتاب مستقل أو نزعة قومية على نحو ما قدم المؤلفون من بعده، بل كان يرصد نمو الحركة الوطنية وتبلور الشخصية المصرية فى عنفوان الاحتلال والملكية، معبرا عنها فى جيل سعد زغلول.
ففى عام 1936 قدم عباس العقاد كتابا عن سيرة وحياة سعد زغلول، فيما يزيد عن 600 صفحة. وهذا الكتاب غير مشهور بين الناس، مقارنة بالنسخة الأصغر المتداولة حاليا والتى لا يزيد حجمها عن 160 صفحة عن سيرة زعيم الأمة.

خصص العقاد نحو 40 صفحة من هذا الكتاب لما أسماه «الطبيعة المصرية فى أوهام الناس».
سنفهم من قراءة الصفحات الأربعين أن العقاد يقصد بالطبيعة ما سيعرف لاحقا باسم «الشخصية».
الطبيعة المصرية عند العقاد تتعرض لهجوم وافتراء، وهو ما استوجب من صاحب القلم الغيور أن يفند تلك الافتراءات والأوهام على النحو التالى:
• رأس الأكاذيب
ورأس الأكاذيب عن الطبيعة المصرية أنها أمة لا تحكم نفسها بنفسها ولا تبالى غارة الأجنبى عليها.
وقد فند العقاد هذه التهمة باستعراض تاريخ الأمم فى العالم ووجد أن المصريين ــ حسب تاريخهم المقدر بآلاف السنين ــ لا يصدق عليهم هذا القول، كما أن الأمم التى تقذفهم بهذه التهمة وقعوا أنفسهم لحكم الأجانب عليهم وتسلطهم على بلادهم من قبل.
والتاريخ كما يقول العقاد قائم على غالب ومغلوب، وفى تاريخ إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو تواريخ الفرس والهند والصين وبقية شعوب المشرق والمغرب لم ينج منها شعب واحد من سلطان الأجانب عليهم.
يذهب العقاد إلى الحجة التى سيتأثر بها جمال حمدان بعد نصف قرن فى دفاعه عن شخصية مصر، ونجدها هنا فى نسختها الأصلية عند العقاد حين يقول:
«وربما كانت مزية الأمة المصرية على أمم كثيرة فى هذه الخلة أن الحاكم الأجنبى كان ينتحل دينها ويتخذ عاداتها ومراسمها ويحفظ ماله فى أرضها ولا ينقله إلى عاصمة بعيدة منها».
• تاريخ من أفواه الأعداء
يرى العقاد أن الاتهام الموجه للمصريين بالخضوع للسطوة الأجنبية أكبر من اتهام الأمم الأخرى به، مرده أن المصريين أمة لها تاريخ قديم متصل بالعالم فى شرقه وغربه وقديمه وحديثه، فالأخبار عنها متصلة وذاكرة الشعوب بأخبارها مشغولة، ولأن العالم القديم والعالم الحديث كليهما قد تلقيا تاريخ هذه الأمة من أفواه الأعداء والمغرضين، ولم تحفل الأمة المصرية بتصحيح ما يقال عنها، لأن تصحيح التواريخ القومية بدعة جديدة لم يعرفها العالم إلا مؤخرا، بل لم يعرف خطرها ومبلغ الحاجة إليها قبل عصرنا الأخير.
وأول الأعداء الذين افتروا على تاريخ مصر ونقلوا لشعوب العالم افتراءات عنهم هم اليونان، الذين كانوا يعملون فى مصر مرتزقة فى الجيوش المصرية فى الفترات الأخيرة من تاريخ مصر القديمة، ولأن هؤلاء كانوا مرتزقة وينظر إليهم المصريون نظرة أدنى من أبناء الوطن، فقد عوضوا ذلك بتشويه سمعة المصريين فى مؤلفاتهم وكتبهم.
• افتراء على مصر باسم الكتاب المقدس
المصدر الثانى للافتراء على المصريين هو ما جاء فى قصص قوم موسى وطردهم من مصر وهنا قام هؤلاء بعمل تعويضى بتصوير المصريين فى كتبهم المقدسة فى صورة أدنى وبدأوا فى نشر افتراءات عنهم بين الشعوب التى انتشروا إليها فى أوطان الشتات، ولا سيما أن مصر لم تطردهم من أرضها فى شرق الدلتا إلى خارج سيناء فحسب بل تركتهم يتعرضون لهجوم البابليين دون أن تقدم لهم المساعدة التى طلبوها. وقد نشر هؤلاء عبر التاريخ صورا وافتراءات عن مصر وتم تكريس هذه الصور وكأنها وحى سماوى قرأه المؤمنون بهذه الكتب المقدسة.
• إساءة تفسير
المصدر الثالث للافتراء على الطبيعة المصرية جاء من بعض كتابات مصر الإسلامية التى قبلت بالروايات الدينية الموسوية وأساءت تفسير اسم «فرعون» الذى ورد فى القرآن، ووقع المصريون أنفسهم فى خطأ اعتبار كل ملك مصرى قديم هو فرعون ظالم يستحق لعنة السماء.
• هجاء المتنبى
يأسف العقاد لأن بعضا من أدباء مصر والعالم العربى يصدقون المتنبى الذى كتب شعرا فى هجاء مصر والحط من قدر أهلها لأنه لم يحقق مطامعه فى السياسة.
يقول العقاد إن سطوة المتنبى وتبعية الأدباء المصريين وغيرهم من العرب روجت لأشعار المتنبى الذى ذم فيها مصر حين لم يحصل فيها على مراده.
إن أشعار المتنبى عن مصر ــ يقول العقاد ــ مفيدة جدا فى أن نتعرف على نفس المتنبى وطبيعته لا أن نتعرف من خلالها على الطبيعة المصرية.
• الاحتلال الأوروبى
وأحدث موجة من موجات الافتراء والأوهام عن الطبيعة المصرية روجتها دول الاستعمار لتجد مبررا لنفسها فى غزو واحتلال شعب مغلوب على أمره يقبل الحكم الأجنبى ويتصف بالجبن والخنوع والاستسلام ولا يجب أن يطمح لاستقلال.
يقول العقاد آسفا:
«هكذا دونوا لنا تاريخنا ولقنوه لنا فى المدارس والكتب حتى رأينا منا من يصدقه ولا يتحرج من تلقينه على هذه الصورة لصغار الأبناء، كأنه يحافظ على أمانة الدرس ويتحرج من التصرف فى لوح العلم المحفوظ»!.
حسنا، إذا كانت هذه هى أوهام وافتراءات، كيف تبدو الطبيعة المصرية على حقيقتها؟
قبل أن يعطينا العقاد الإجابة ينبهنا إلى أننا لا يجب أن نقع فى خطأ مماثل بتقديس الطبيعة المصرية فالأمة المصرية ليست معصومة من العيوب والمآخذ، وليست الأمم العريقة مثل الأمة المصرية فى حاجة ــ يقول العقاد ــ إلى هذا الضرب الرخيص من التقديس والتنزيه، فتحصر لنفسها المناقب وترجم الأمم الأخرى بالنقائص والمثالب.
إن هذا الضرب الرخيص هو نهج الأمم الحديثة التى لا تاريخ لها، والتى تفترى على الأمة المصرية.
فى المقال المقبل نكمل مناقشة المسألة، ونرى أين الثابت فيها وأين المتغير.