الدرس الروسى فى الانتقام الاستراتيجى من أوكرانيا

خالد أبو بكر
خالد أبو بكر

آخر تحديث: الثلاثاء 18 مارس 2025 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

 

فى أغسطس 2024، عندما اندفعت القوات الأوكرانية عبر الحدود إلى مقاطعة كورسك الروسية، بدا وكأن كييف حققت اختراقًا مذهلًا، ليس فقط عسكريًا، ولكن سياسيًا واستراتيجيًا. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، احتل جيش أجنبى أرضًا روسية، وبدت موسكو فى موقف دفاعى نادر. لكن كما أظهرت التطورات الأخيرة، فإن ما بدا نصرًا مبهرًا للأوكرانيين، تحوّل فى النهاية إلى فخ استراتيجى وقلب الموازين لصالح روسيا.

عندما كتبت مقالى (اختراق عسكرى أوكرانى مبهر بين مخالب الدب الروسى!) فى 13 أغسطس 2024، كنتُ أرى بوضوح أن الهدف الأوكرانى لم يكن مجرد التقدم العسكرى، بل محاولة للحصول على ورقة ضغط سياسية يمكن استخدامها لاحقًا فى المفاوضات. كان الرهان أن وجود أوكرانيا داخل الأراضى الروسية سيتيح لكييف فرصة للمساومة: محطة كورسك النووية الروسية مقابل محطة زابوروجيا الأوكرانية التى تحتلها روسيا، أرض داخل روسيا مقابل أرض داخل أوكرانيا. لكن فى النهاية، لم تتمكن أوكرانيا من الاحتفاظ بهذه المكاسب، والنتيجة كانت كارثية سياسيًا وعسكريًا.

• • •

منذ البداية، لم تتعامل موسكو مع الهجوم الأوكرانى كأزمة طارئة تتطلب رد فعل متسرع، بل تعاملت معه كمعركة طويلة الأمد.  بدلًا من مواجهة مباشرة مكلفة، تبنّت روسيا استراتيجية الاستنزاف والسيطرة التدريجية. خلال الأشهر السبعة الماضية، عملت موسكو على تأمين محطة كورسك النووية بالتوازى مع إضعاف القوات الأوكرانية دون خوض معارك استنزاف واسعة. الضربات الجوية الدقيقة، واستهداف خطوط الإمداد، والتشويش على الاتصالات، وشن هجمات مضادة محدودة لكنها مؤثرة، كلها عوامل جعلت الدفاع الأوكرانى ينهار ببطء.

لكن العامل الأكثر حسما جاء فى الأسابيع الأخيرة، عندما نفذت القوات الروسية هجومًا مضادًا محكمًا استخدمت فيه تكتيكات تطويق فعالة. وفق التقارير، استخدم الروس ممرات الغاز المهجورة للتسلل خلف الخطوط الأوكرانية، مما أدى إلى إرباك القوات المتمركزة فى مدينة Sudzha، المعقل الرئيسى لأوكرانيا فى المنطقة. فى غضون أيام، وجدت كييف نفسها مجبرة على الانسحاب التدريجى تحت وطأة القصف الروسى العنيف والهجمات البرية المتزايدة.

فى النهاية، لم يكن أمام أوكرانيا خيار سوى التراجع لإنقاذ ما تبقى من قواتها. المدن التى سيطرت عليها كييف لعدة أشهر، بما فى ذلك Sudzha سقطت الواحدة تلو الأخرى، وعادت كورسك بالكامل تقريبا إلى السيطرة الروسية.

• • •

إعادة السيطرة الروسية على كورسك لم تكن مجرد عملية عسكرية ناجحة، بل كانت  استعراضًا لاستراتيجية الانتقام المدروس. لم تسعَ موسكو إلى استعادة الأرض فورًا بأى ثمن، بل انتظرت حتى تحولت المكاسب الأوكرانية إلى عبء، واستنزفت قوات العدو، ثم وجهت الضربة القاضية.

هذه العملية تعيد إلى الأذهان دروسًا من التاريخ العسكرى الروسى؛ حيث يعتمد الكرملين دائمًا على إرهاق العدو ببطء، ثم تنفيذ هجوم حاسم يعيد الأمور إلى نصابها. لقد شاهدنا هذا النهج فى معركة ستالينجراد فى الحرب العالمية الثانية، وفى الصراع ضد الشيشان، والآن فى كورسك.

مع استعادة روسيا للأراضى التى فقدتها، بات زيلينسكى فى موقف أضعف مما كان عليه قبل سبعة أشهر. الآن، لم يعد لديه أى أوراق قوية فى مواجهة موسكو، فيما تستعد الولايات المتحدة لدفع الطرفين نحو هدنة قد لا تكون فى صالح كييف. توقيت هذه التطورات ليس مصادفة، فمع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تراجعت المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا بشكل واضح، وبدأت واشنطن تمارس ضغوطًا على كييف للدخول فى مفاوضات سلام.

• • •

على الجانب الآخر، ظهر بوتين كقائد حسم معركة مصيرية، وأكد أن أى محاولة لاختراق الأراضى الروسية ستُواجه برد قاسٍ. لم يعد الحديث الآن عن حرب داخل أوكرانيا فقط، بل عن قدرة روسيا على التعامل مع أى تهديد يصل إلى حدودها.

الآن، وبعد تصفية ثغرة كورسك، تبرز أسئلة جديدة حول الخطوة التالية لموسكو. هل ستكتفى روسيا بما حققته، أم أن هذا الانتصار سيمنحها الدافع للانتقال إلى الهجوم الكامل داخل أوكرانيا؟ تشير التقارير إلى أن الجيش الروسى بدأ فى تعزيز مواقعه على الحدود مع مقاطعة سومى، ما قد يكون مقدمة لهجوم جديد لتوسيع نطاق العمليات العسكرية.

إذا قررت موسكو استغلال ضعف أوكرانيا فى هذه اللحظة، فقد تكون المرحلة المقبلة أكثر خطورة. روسيا تدرك أن الوقت يعمل لصالحها، وأن الغرب لم يعد مستعدًا لدعم كييف كما كان فى السابق، ومع استمرار حالة الإنهاك الأوكرانى، قد يكون التصعيد الروسى مجرد مسألة وقت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved