بوتفليقة والبشير ونُظرائهما.. استقالة أم إقالة؟
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الخميس 18 أبريل 2019 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
«الاستقالة» هى قرار يقدمه شخص يحتل منصبا إداريا أو تنفيذيا إلى شخص أو هيئة أعلى منه، وذلك عندما يتعذر عليه القيام بدوره المنوط به كما ينبغى، وذلك لظروف خاصة تلم به، كالمرض، أو عندما يشعر بعدم الكفاءة والأهلية اللتين تُمَكَّنانِه من ممارسة مهامه، أو لتغير مفاجئ يواجهه فى عمله خارج عن إرادته، فيجد نفسه غير مؤهل للقيام بمهامه التى أؤتمن عليها، وعليه فهو يتقدم باستقالته من تلقاء نفسه، ودون إجبار ــ صريح أو غير صريح ــ من أحد، وتنازله عن منصبه المُكلف به هو قرار يأتى من وحى ضمير المسئول، وهذا شىء محمود، ويُحسب كحسنات فى مسيرة صاحب القرار، ولا يُقلل أبدا من قيمته وهيبته أمام من يمثلهم فى منصبه، لأنه يُعلى المصلحة العامة فوق مصلحته الخاصة.
أما «الإقالة»، فهى أن يقوم المسئول عن تعيين شخص ما فى مهمة رسمية بطرد هذا الشخص، أو إعفائه من منصبه، نظرا لعدم كفاءته المهنية، أو لإهماله فى وظائف عمله، أو لخيانته وتلاعبه فى الأمانة المكلف بالحفاظ عليها، فهو شىء مُهين فى حق المُقال، ويُنقص كثيرا من هيبته، ويُحسب عليه فى مسيرة حياته المهنية والأخلاقية أيضا، لأنه فى هذه الحال يكشف عن «أنانيته» لأنه يُفضل مصلحته الشخصية عن المصلحة العامة التى عُين من أجلها فى منصبه، ولكن الشخص الذى يقع مريضا فجأة، لا عيب عليه، ولكن العيب إذا تمسك بمنصبه، وضرب بعرض الحائط مصالح الذين كلفوه بمنصبه، وهنا تكون خيانة الأمانة.
ونذكر مثالا واضحا يُعضد فرضيتنا، فى اليابان، وفى ثمانينيات القرن الماضى، عند بدايات ظهور التعامل بالكمبيوتر، أثبت الشباب أهليتهم الكبيرة فى استخدام هذه الآلية الجديدة لخدمة عملهم ووظائفهم وتطويرها، بينما كشفت هذه الإمكانية عجز رؤسائهم، وعدم مقدرتهم فى التعامل مع المستحدثات، وهذا أمر طبيعى، فهم من جيل سابق على مرءوسيهم، ولم تتح لهم فرصة تعلمها فى صغرهم أو فى شبابهم، فقللت من كفاءاتهم فى إدارة أعمالهم، فوجدوا لزاما عليهم، ومن وحى ضمائرهم، أن يتقدموا باستقالاتهم من تلقاء أنفسهم، مُؤثرين مصلحة شركاتهم فوق مصلحتهم الشخصية، فهذا من شأنه أن يكشف عن شخصيات سوية، ومُحبة لشركاتها، ومخلصة لوظائفها التى تولتها.
***
وفيما يخص الأحداث الأخيرة فى الجزائر الشقيقة، تقدم الرئيس بوتفليقة باستقالته يوم الثلاثاء الثانى من إبريل 2019، وبناء على ما سبق توضيحه فإننا نطرح السؤال التالى: هل ما تقدم به الرئيس بوتفليقة هو «استقالة» أم «إقالة»؟
لقد تقدم باستقالته بعد صراع طويل للحفاظ على منصبه كرئيس للبلاد، معاندا لإرادة شعبه فى التغيير! وذلك على الرغم من ظروفه الصحية المعروفة للقاصى والدانى منذ فترة طويلة تجاوزت عددا من السنين الطويلة ــ شفاه الله وعافاه ــ بعد أن بلغ 81 عاما، وبعد أن قضى عشرين عاما فى الحكم، فقد تقدم للترشح لولاية خامسة فى العاشر من فبراير، ولكن الشعب الجزائرى يرفض هذا الطلب، ويقوم بمظاهرات احتجاجية ضد استمراره، وكان أول تعليق من داخل المؤسسة الحاكمة على نداءات التظاهر أنها «نداءات مشبوهة ظاهرها التغنى بالديمقراطية»!، وفى 26 فبراير، يعلن الحزب الحاكم «جبهة التحرير الوطنى» تصميمه على الترشيح، ويحذر بوتفليقة ــ فى رسالة ثانية ــ المتظاهرين من «إشاعة الفوضى» ومن «مآسى» الربيع العربى!
وتتصاعد الاحتجاجات لثلاثة أسابيع، وتحذر المعارضة السلطة من تجاهل مطالب الشعب، ويخرج الشعب الجزائرى فى جمعة «الحسم» (8 مارس) مناديا: «لا عهدة خامسة يا بوتفليقة»، وتعم الإضرابات البلاد بأكملها فى 10 مارس.
وتحت هذا الضغط، يُطل الرئيس بوتفليقة من جديد برسالة ثالثة (11 مارس) يعلن فيها: «لا محل لعهدة خامسة، بل إننى لم أنو قط الإقدام على طلبها، حيث إن حالتى الصحية وسنى لا تتيحان لى سوى العمل على إرساء أسس جمهورية جديدة»!، ولكن المعارضة ترفض الرسالة وتعتبرها «مراوغة».
وبعد أن باءت كل محاولات بوتفليقة بالفشل، ووجد نفسه وحيدا، بعد أن انضم الجيش لمطالب الشعب، يستسلم ويبلغ المجلس الدستورى باستقالته فى 2 إبريل، قبل أيام قليلة من انتهاء ولايته فى 28 إبريل الحالى!، فهل هذه «استقالة» أم «إقالة»؟، هى «إقالة» بلا أدنى شك من الشعب الجزائرى، واعتبارها «استقالة» هو استهانة بوعى وبحقوق الشعب الذى أجبره على هذا، لقد أخطأ الرئيس بوتفليقة بتمسكه بالسلطة، وأضاع سيرته الناصعة ودوره المهم فى بث السلام بعد حقبة «سنوات الجمر»، أو «العشرية السوداء» التى شهدت خلالها الجزائر صراعا دمويا بدأ فى يناير 1992.
***
إن سيناريو بوتفليقة للتمسك بالحكم هو ذاته الذى فعله مبارك بكل مفرداته، بدأ مبارك بالتهديد (فى خطابه الأول): «إن أحداث الأيام القليلة الماضية تفرض علينا (...) الاختيار ما بين الفوضى والاستقرار»؛ وعندما لم ينجح تهديده، استجدى الشعب فى خطابه الثانى، فاستعرض إنجازاته: «إننى رجل من أبناء قواتنا المسلحة، (...) أفنيت عمرى دفاعا عن أرضه وسيادته»؛ وفى خطابه الثالث استعطف الشعب بقوله: «إن هذا الوطن العزيز هو وطنى (...)، عشت وحاربت من أجله (...)، وعلى أرضه أموت...»، «أتوجه إليكم جميعا بحديث من القلب، حديث الأب لأبنائه وبناته»!.
وعندما فشلت كل محاولاته لإقناع الشعب، يبتكر حيلة جديدة، وهى تفويض نائب رئيس الجمهورية فى اختصاصاته، ولم يقدم استقالته! ولكن الشعب الذى خُدِع كثيرا بمعسول كلماته فى ثلاثة خطابات، وسمع منه ــ سابقا ــ تعبيره الاستفزازى «خليهم يتسلوا»، لم تنطلِ عليه هذه المراوغات، فيصر على «إقالته» ــ على الرغم من انتهاء ولايته الخامسة بعد أشهر قليلة ــ ويستسلم فى النهاية لمطلب الشعب، ويقدم «تخليه» عن السلطة، فى محاولة لحفظ ماء الوجه، ولكن الحقيقة أن الشعب المصرى «أقاله»! وخسر مبارك كل تاريخه لأنه فكر فى نفسه وفى أسرته فقط.
وها هو الشعب السودانى يسير فى نفس المضمار، فيُقيل رئيسه، ويحاول إسقاط نظامه الإخوانى كله الذى وصل به الحد أن هتف أعضاء برلمانه من الإخوان: «مصر عدو بلادى»! وكانت مشكلة حلايب وشلاتين هى الوسيلة الوحيدة لإلهاء أشقائنا السودانيين بموضوعات تصرف النظر عن فشل نظام الحكم، وعن فصل الجنوب، وتفشى الفساد...إلخ، والآن أقال السودانيون البشير، واعتبروا ما قام به نائبه الفريق عوض بن عوف انقلابا، وذلك ليفرض الشعب كلمته بـ«إقالة» الرئيس ونائبه.
***
فى الحقيقة، ما بين «الاستقالة» و«الإقالة» فارق كبير: «الاستقالة» شرف لمقدمها، لأنه يُعلى مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، ويقر بها بواقع جديد، أما «الإقالة» فهى عار فى حق المُقال لأنها تثبت فشله، وتفضيله مصلحته الشخصية، لأنه رفع شعار «أنا ومن بعدى الطوفان»، ونتائجها مؤلمة سواء على الفرد أو الجماعة، والأمثلة فى الوطن العربى كثيرة.
نذكر أولها، عندما رفض الحبيب بورقيبة التنازل عن الحكم، نظرا لكبر سنه ولظروفه الصحية، فعزله زين العابدين بن على (رئيس وزرائه) بانقلاب فى 1987، وبذلك أساء بورقيبة إلى تاريخه العظيم، باعتباره الأب المؤسس للجمهورية التونسية؛ وثانيها، عندما رفض صدام حسين الاستقالة لإنقاذ بلاده، فاحتُل العراق، ودُمرت مؤسسات بلاده، ونُهبت ثرواته؛ ومن بعده هرب زين العابدين من تونس فى 2010 لعدم الاستجابة لمطالب شعبه، فأصبح شريدا خارج وطنه؛ وكذلك فعل القذافى، فكان مصير ليبيا مثل مصير العراق؛ وفى سوريا واليمن، رفض الأسد وعبدالله صالح تسليم السلطة، فتمزقت سوريا واليمن، واندلعت فيهما حروبا أهلية، وفى مصر، لولا حماية الجيش العظيم وتأييده لثورة 25 يناير، لتمزقت مثل أشقائها.
إن سيناريوهى الجزائر والسودان الأخيرين يؤكدان أن الربيع العربى الذى فجره الشاب التونسى «محمد البوعزيزى» ما زالت توابعه حية، لقد أضرم البوعزيزى النار فى نفسه فى 17 ديسمبر 2010، مطالبا بالحرية وبالعدالة، فأشعل الوطن العربى كله نارا، وربيعا بعواصف هائجة هزت كل أركانه الراسخة زيفا!
وكما لم يدرك الرؤساء العرب الفارق بين «الاستقالة» و«الإقالة»، فإنهم أيضا لم يميزوا بين القائد الذى يختاره الله (النبى)، وبين القائد الذى يختاره الشعب (الرئيس الإنسان)، ونستحضر هنا نظرية الفيلسوف الألمانى Spengler شبينجلر (1880 ــ 1936) التى عارض فيها تقسيم التاريخ إلى فترات زمنية (قديم، وقرون وسطى، وحديث)، وقسمه إلى ثمانى ثقافات منها: المصرية، واليونانية، والعربية، والغربية، وكان من أهم أوصافه للحضارة العربية تميزها بظهور كل الأنبياء فيها، ويبدو ــ من وجهة نظرنا ــ أن الأمر اختلط على الرؤساء العرب، فلم يميزوا بين النبى، اختيار الله ومبعوثه حتى مماته، وبين الرئيس، اختيار الشعوب لفترة محددة، والذى اعتقد أنه مثل الأنبياء مُنزل ولا يُخطئ، وأن دوره لا ينتهى أبدا إلا مع «آخر نبضة فى قلبه»، كما قال مبارك! لقد آن الأوان لنتخلص من هذا الميراث الثقافى الذى قضى على حضارتنا العربية.
ونختم بقول الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليــــــــل أن ينجــلى ولابـــــد للقيــد أن ينكسر
فهل من مُذكر؟