العلوم التي نظنها غير مفيدة
محمد زهران
آخر تحديث:
الأحد 18 أبريل 2021 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
في الثلاثين من شهر أبريل سنة 1939 بدأ معرض نيويورك في ضاحية كوينز، وكان عنوان المعرض في تلك السنة هو "عالم الغد".
كان الناس يرون في المعرض الأجهزة التي ستصبح في أيديهم في المستقبل. بدأ المعرض بخطاب للرئيس الأمريكي روزفلت وضيف الشرف كان العالم الكبير ألبرت أينشتاين.
رأي الناس وبانبهار شديد غسالة الأطباق الأوتوماتيكية وجهاز التكييف وجهاز الفاكس.
هناك شيئان لم يظهرا في المعرض الذي يتحدث عن عالم المستقبل: الطاقة النووية وأجهزة الكمبيوتر! وهذا هو موضوع مقالنا اليوم: العلوم التي لا نجد لها تطبيقات في الوقت الحالي هل هي مفيدة؟ في تلك الفترة والعالم على أعتاب الحرب العالمية الثانية كانت الأبحاث المتعلقة بالطاقة النووية وأجهزة الكمبيوتر مازالت في مهدها وكان الناس لا يرون لها استخداماً في حياتهم حتى ذلك الوقت.
فكيف كانت تلك الأبحاث تحصل على التمويل اللازم؟ ولماذا تهتم بها الحكومات؟ وما أهميتها؟ مازلنا نتذكر مقولة توماس واطسون سنة 1940: "من الممكن أن يكون هناك سوق لحوالي خمسة أجهزة كمبيوتر في هذا العالم"، توماس واطسون هذا هو مؤسس شركة أي بي إم. فكرة عبقرية طرأت على الأكاديمي الأمريكي أبراهام فلكسنر وهي إنشاء مركز بحثي يجتمع فيه كبار العلماء من تخصصات عدة ولا يكون عليهم أية مسؤوليات من تدريس أو اجتماعات، عليهم فقط التفكير والبحث العلمي في أي شيء يريدونه، كان فلكسنر يسميه "جنة العلماء" وكان هذا المشروع هو "معهد الدراسات المتقدمة" أو (Institute of Advanced Studies) الملحق بجامعة برينستون العريقة. وقد عين فليكسنر أسماء مثل أينشتاين وجودل وفون نويمن في هذا المعهد ليتفرغوا للتفكير وبدون عائد مادي للمعهد في القريب العاجل، هل تظن أنها فكرة جيدة؟ البحث العلمي يدفعه شيئان للأمام: حل مشكلة موجودة فعلاً والفضول البشري للمعرفة، نستطيع إضافة عامل ثالث وهو الطمع في الجوائز والشهرة لكن لنترك هذا العامل جانباً في هذا المقال. أهمية النوع الأول واضحة، أما النوع الثاني فهو ما نتكلم عنه.
هذا النوع من البحث العلمي المدفوع بالفضول قد لا يكون له تطبيق في الوقت الحالي، ولكنه مفيد. الحياة تزداد تعقيداً وبالتالي المشكلات التي نواجها تحتاج حلولاً مبتكرة، هذه الحلول نجدها جاهزة في تلك الأبحاث النابعة من الفضول العلمي.
من كان يتصور أن أجهزة الكمبيوتر ستصبح ركناً أساسياً في جميع مناحي الحياة؟ من كان يتصور أن كلود شانون الذي كان يأتي إلى عمله في العاشرة صباحاً ويظل يلعب الشطرنج حتى الواحدة ظهراً ثم يرحل سيقوم بوضع مبادئ ما سيسمى بعد ذلك بالذكاء الاصطناعي؟ من كان يتصور أن علماء الفيزياء الذين يحاولون معرفة تركيب الذرة سيفتحون الباب لاستخدام الطاقة النووية وسيصبحون قاب قوسين أو أدنى من تدمير العالم بالسلاح النووي؟ هذه المعارف التي لا تطبيق عاجل لها ستكون حلولاً لمشكلات مستقبلية وأيضاً ستفتح أفاقاً لاستخدامات لم تكن في الحسبان، هذا يشبه الشركات التي تطرح منتجات يحتاجها الناس ومنتجات سيحتاجها الناس عندما تنزل إلى الأسواق ويرونها. السؤال المهم الآن: هل نحتاج هذه النوعية من الأبحاث في مصر الآن؟ في الدول النامية يجب أن يكون الاهتمام الأول بحل المشكلات الملحة وهي تحتاج أبحاثاً علمية تطبيقية مثل تحلية مياه البحار أو زيادة كفاءة الخلايا الشمسية.
هذه الأبحاث قد لا تؤدي إلى أبحاث منشورة في مجلات علمية مرموقة أو الحصول على جوائز علمية لكنها تحل مشكلات على الأرض.
النوع الآخر من الأبحاث والتي نتكلم عنها في هذا المقال تحتاج تمويل بدون عائد على المدى القصير لذلك لا نجده إلا في الدول الغنية والمتقدمة علمياً (لا بد من توفر الشرطين)، لذلك يجب أن تكون أغلب الأبحاث عندنا في مصر من النوع الأول والقليل من النوع الثاني والذي يمكن أن نعتبره جزء من القوة الناعمة، وكلما تقدمت الدولة زاد عدد الأبحاث من النوع الثاني.
تأتي مشكلة صغيرة وهي إرادة الباحثين أنفسهم، الكثير منهم قدر يريد العمل على النوع الثاني من الأبحاث حتى يحصلوا على الشهرة وقد يحلمون بجوائز مثل نوبل وفيلدز وتيورنج، هنا يجب أن يسأل الباحث نفسه: هل أنت مؤهل فعلاً لهذا النوع من الأبحاث؟ أم أنك مدفوع بحب الشهرة؟ هل تبحث عن مساعدة وطنك؟ أم مجدك الشخصي؟ أعتقد أنه يجب أن تكون هناك خطة في كل لدولة للتركيز على أبحاث معينة وتتم مراجعة تلك الخطة كل عدة سنوات. كل المعرفة مهمة لكن توقيت الاستفادة منها مهم أيضاً.