سقيفة بنى ساعدة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 18 أبريل 2022 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
«السقيفة» فى عرف العرب، هى ذلك البناء المفتوح، الذى غالبا ما يكون مسقوفا، إما بفروع الأشجار أو سعف النخيل. وفى حين تنتصب جدرانه من جهات ثلاث، تبقى جهته الرابعة،التى جرت العادة أن تكون الشمالية، مفتوحة على ساحة ملحقة بالمبنى. وفى كنف السقيفة، يلتقى القوم لمدارسة شئونهم، أو للترويح والسمر. ومن بين عديد «سقائف»، انتشرت بالمدينة المنورة، دخلت سقيفة «بنى ساعدة»، التى كانت تقع فى الجهة الشمالية الغربية للحرم النبوى الشريف، التاريخ الإسلامى من أوسع أبوابه. حيث شهدت تسوية عصيبة وحاسمة لقضية مصيرية ومعقدة. تم، على إثرها، حلحلة معضلة قيادة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. كما أرسيت، انطلاقا منها، دعائم الدولة الإسلامية الثانية، فى زمن ما بعد إدارة النبى المعصوم.
لما كان العرب أميين وحديثى عهد بالرسالة، والنبوة، والتوحيد، فقد شكلت لهم وفاة النبى المجتبى، يوم الاثنين، الموافق الثانى عشر من ربيع الأول، بالعام الحادى عشر للهجرة، صدمة نفسية وعقائدية مروعة. إذ استعصى على مسلمين كثر، بمن فيهم بعض أساطين الصحابة، كعمر بن الخطاب، استيعابها فى مستهلها. ومن منظور آخر، تسبب الخطب الجلل فى أزمة سياسية ومؤسسية طاحنة، جراء فراغ زعامة الأمة بعد وفاة هاديها ومؤسسها وقائدها. كونه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد سمى أحدا بعينة لخلافة المسلمين من بعده، وإن أوكل إلى أبى بكر، رضى الله عنه، إمامة الناس فى الصلاة، نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، أثناء مرضه الأخير.
بينما كان المهاجرون وأهل بيت النبوة عاكفين على تجهيز جسد الرسول الطاهر، توطئة لمواراته الثرى، هٌرع رهط من قادة الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة الخزرجى، وبشير بن سعد، والحباب بن المنذر، للاجتماع فى سقيفة بنى ساعدة، بغية التشاور فى شأن خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم. الأمر الذى أعطى انطباعا بأنهم قد تقصدوا إتمام مهمتهم فى معزل عن إخوانهم المهاجرين. حيث تؤكد الروايات التاريخية أن المهاجرين لم يعرفوا بأمر اجتماع الأنصار فى السقيفة، إلا بطريق الصدفة. فما إن أخبر أحد الصحابة، عمر بن الخطاب بالأمر، حتى اصطحب أبا بكر إلى «السقيفة»، ومعهما أبو عبيدة بن الجراح. وهنالك، انقسم الصحابة إلى فريقين: تزعم أولهما، أنصار يطالبون بتولى سعد بن عبادة، خلافة المسلمين. بينما تصدر ثانيهما مهاجرون، ينادون بإسنادها إلى الصدَيق، رضى الله عنه.
وفى صحيحه، أسهب الإمام البخارى، فى شرح رواية عمر، رضى الله عنه، بخصوص تفاصيل ما جرى بين المهاجرين والأنصار، فى ذلك اليوم المشهود. إذ جاء على لسان الفاروق، أنه بلغ السقيفة مع أبى بكر، فوجد الأنصار، وقد التأموا حول سعد بن عبادة، وطفقوا يستعرضون مناقبهم وفضائلهم. فلما أراد عمر أن يحاججهم، أوقفه أبو بكر، ثم قال لهم: «ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، لكن هذا الأمر لا يُعرف إلا لهذا الحى من قريش. فهم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين (يقصد عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح)، فبايعوا أيهما شئتم». وما كاد أبو بكر ينهى كلامه،حتى كثُر اللغط، وعلت الأصوات. فإذا بعصبة من الأنصار تقول: «منا أمير ومنكم أمير».
تطلعا منه لاحتواء الخلاف، ورتق الخرق فى مستصغره، قبل أن يتمزق الثوب،كل ممزق، فتتفرق الأمة أيدى سبأ، قال الصدَيق، أبو بكر، للأنصار، وفق رواية الطبرى: «منا الأمراء ومنكم الوزراء». غير أن القول الفصل، والإجراء الحاسم، قد صادفا الفاروق عمر، رضى الله عنه، الذى استشعر، بفراسته، نذر انقسام يوشك أن يشطر الأمة، ويفت فى عضد المسلمين، وسط منعطف تاريخى بالغ الحرج والحساسية. الأمر الذى قد يؤجج الخصومات والأحقاد، ويشعل لهيب الاحتراب الأهلى، بين بطون وقبائل لم تكن قد برئت كلية من أسقام الجاهلية وأدرانها. وتقديرا منه لمكانة الصديق، وإيثاره، وزهده فى الأمر، قال له الفاروق، بكل حزم، وطيب نفس، وترفع عن أى عرض دنيوى، أو مأرب شخصى: «ابسط يدك يا أبا بكر». فما إن فعل الصديق، حتى بايعه عمر، ومن بعده المهاجرون، ثم الأنصار. لتطوى بذلك صفحة الخلاف، وتوءد الفتنة فى مهدها، كيما تنجو الأمة من ظلمات التشرذم، وتتجنب موارد التهلكة.
بمقاربة فكرية، سطرت واقعة سقيفة بنى ساعده، وثيقة ميلاد منحى التشيع فى الإسلام. فخلافا لادعاءات بعض أصحاب ذلك النهج، لجهة بزوغ إرهاصاته الأولى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، تكاد تجمع طائفة من الباحثين فى تاريخ الأفكار، على أن تلك الواقعة، قد أفرزت البدايات الفعلية لذلك التوجه، الذى بات يعرف لاحقا فى الفكر الإسلامى، بالمذهب الشيعى. فوقتئذ، ظهرت الفرقة المنادية بوجوب إمامة علَى بن أبى طالب، للمسلمين عقب وفاة الرسول. لورعه، وتقواه، وقرابته له صلى الله عليه وسلم، وقربه منه، فضلا عن التوصيات النبوية المتواترة فيما يتصل بحقوق ومكانة علَى وعترته وشيعته.
اجترأ دعاة ذلك الطرح، على الزعم بأن عقد البيعة لأبى بكر فى السقيفة، تم من دون تشاور مع الصحابة، وفى غيبة من بنى هاشم عن الاجتماعات والمداولات التى دارت حول هذا الأمر الخطير. الأدهى من ذلك، أن زمرة من الشيعة، قد ادعت أن عليا، كرم الله وجهه، كان يرى أنه الأحق بخلافة المسلمين .ومن ثم، اعترض على مخرجات اجتماع السقيفة، حتى أنه لم يبايع أبا بكر، رضى الله عنه، إلا بعد مضى ستة أشهر من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. وراجت أقاويل بخصوص التفاف متشيعين كثر حوله علَى، متعهدين نصرته، وإمداده بالمال، والسلاح، والرجال، والخيل.
أورد البخارى، وذكرت مصادر تاريخية، مثل: «تاريخ الطبرى»، و«طبقات ابن سعد»، أن شخصيات صحابية وازنة قد انحازت لأطروحة أحقية علَى فى خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم. فإلى جانب الزبير بن العوام، وسلمان الفارسى، برز أبوسفيان بن حرب، محرضا علَيا وعمه العباس، على النهوض للمطالبة بالخلافة، عارضا تقديم كل صور الدعم والمساندة. وقد أشار اليعقوبى، فى مؤلفه «تاريخ الرسل والملوك»،إلى مؤازرة الهاشميين، عن بكرة أبيهم، لعلَى، فيما يخص نتائج اجتماع السقيفة. كما أن جمعا من الأنصار كانوا يعتقدون فى أحقيتة بالخلافة. حتى أن، المنذر بن أرقم الأنصارى، وقف أثناء مساجلات المهاجرين والأنصار فى السقيفة، قائلا فى علَى: «إن فى المهاجرين لَرَجلا، لو طلب هذا الأمر، لما نازعه فيه أحد». فيما قال نفر من الأنصار: «لا نبايع إلا عليا». وفى رواية ثانية: «لن نبايع حتى يبايع علىُ». ثم فى ثالثة: «نبايع من يبايعه علىٌ».
مثل هذه الروايات وغيرها، مردود عليها بأن عليا، رضى الله عنه، لم يكن من المتطلعين للخلافة أو طالبى الولاية. كما أنه وافق على نتائج مشاورات السقيفة، وسارع إلى مبايعة أبى بكر، فور انتهاء الاجتماع. حيث أورد، الطبرى، فى تاريخه، نقلا عن سيف بن عمر التميمى، أن «عليا قد خرج من بيته، يومها، وما عليه من إزار ولا رداء، حتى بايع الصدَيق، ثم أرسل بعدها يستدعى إزاره». أما ثلة الصحابة، الذين كانوا يرتأون أحقيته بالخلافة، لمكانته وقرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم ما إن وجدوا الأمر قد استقر لأبى بكر، وبايعه علىُ نفسه، حتى ارعووا، وأقبلوا هم أيضا على مبايعته.
كذلك، اتفق بن خلدون، فى كتابه العمدة «تاريخ بن خلدون»، مع ما سبق وذكره، بن كثير، فى مؤلفه الماتع «البداية والنهاية»، بشأن انعقاد الإجماع بين المسلمين على استخلاف الصدَيق، بالقول: «أجمع المهاجرون والأنصار على بيعة أبى بكر». وفى مؤلفه «شرح نهج البلاغة»، أورد بن أبى الحديد المعتزلى، عن علَى بن أبى طالب نفسه، أن مبايعة الناس لأبى بكر، إنما جاءت عقب حادثة السقيفة مباشرة، وقد كانت بيعة عامة، جرت عن شورى وقبول، من لدن عامة المسلمين وخاصتهم.