عن واقعية تدعى
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الأربعاء 18 مايو 2016 - 10:02 م
بتوقيت القاهرة
من بين الاتهامات التى يرمى بها المدافعون عن حقوق الإنسان والحريات فى مصر، يروج حاليا الاتهام بتبنى قراءة غير واقعية لأحوال البلاد وبتجاهل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لمصلحة نظرة بالغة المثالية تعد الناس بما لا يريدون.
بين صفوف مؤيدى السلطوية الحاكمة فى مصر وصفوف المتشككين دوما فى الفكرة الديمقراطية، ينزع أصحاب الأصوات الأقل صخبا والأقل رغبة فى التورط فى مقولات التآمر والتخوين إلى التشديد على عدم واقعية المطالبة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية بينما البلاد تعانى من شيوع الفقر والجهل وتدنى مستويات خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والفجوات المجتمعية الكاسحة بين من لا يملكون ومن يملكون. كذلك تؤكد ذات الأصوات على «الاستحالة الفعلية» لاستعادة مسار تحول ديمقراطى حقيقى فى ظل ظروف إقليمية راهنة بها حروب أهلية وإرهاب وعنف وانهيارات متسارعة لكيان الدولة الوطنية فى بعض بلاد العرب، فى ظل ظروف تطرح على الأمن القومى المصرى تحديات كثيرة يتعين إعطاء الأولوية للتغلب عليها.
ثم يدعم هؤلاء «الهادئون» بين مؤيدى السلطوية الحاكمة والمتشككين فى الفكرة الديمقراطية طرحهم باستدعاء أمرين إضافيين لهما شىء من التأثير فى قناعات الناس فى مصر؛ أولهما الحرب على الإرهاب وثانيهما اعتيادنا المزعوم على الحياة وسط مظالم وانتهاكات متراكمة. من خلال حديث الحرب عن الإرهاب تتحول الكوارث الإقليمية إلى «بدايات مصرية» تتهددنا فى سيناء وفى أماكن أخرى، وتلزم من ثم بالاصطفاف خلف «القيادة السياسية» لمنع انزلاقنا إلى «الهاوية السورية أو العراقية أو الليبية» أو غيرهم من بلدان الحروب والعنف فى عالم العرب البائس. ومن خلال ادعاء اعتياد المصريات والمصريين الحياة فى دولة بوليسية، فى جمهورية خوف، يصادر الحق العام فى المطالبة اليوم باحترام الحقوق والحريات لكونه أسقط منذ زمن غير قريب وتجدد إسقاطه مرارا.
لدى قطاعات شعبية مؤثرة، ولا يستهان لا بتنوعها الاقتصادى والاجتماعى ولا بامتدادها الجغرافى عبر الحضر والريف ولا بتداخل مكوناتها الجيلية، يكتسب الاتهام بعدم واقعية المدافعين عن الحقوق والحريات مصداقية تضفى على السلطوية الحاكمة شرعية زائفة عنوانها إما مقولة «هذا هو أفضل نظام حكم متاح لنا» أو مقولة «لا يوجد بديل للحكم القائم» أو ما يتشابه معهما.
ولأن سيطرة السلطوية (المباشرة وغير المباشرة) على الفضاء العام لا تمكن الأصوات الديمقراطية سوى من الحضور فى هوامش قليلة العدد وضعيفة التأثير، يتواصل الترويج للاتهام بعدم واقعية المدافعين عن الحقوق والحريات على الرغم من تهافته البين.
فعوامل الفقر والجهل وتدنى مستويات الخدمات الأساسية تحتاج جميعا للتغلب عليها عملا تنمويا متكاملا ومستداما، ومثل ذلك العمل يستحيل تحققه فى مصر (وهى ليست كالصين وليست كبلدان الخليج) دون انفتاح سياسى وسيادة قانون تصون الحقوق والحريات ومجتمع مدنى يتمتع بالاستقلالية وقطاع خاص يدرك أبعاد دوره المجتمعى بجانب توجهه للربح.
والكوارث الإقليمية القريبة منا أوجدها ويوجدها حكم المستبدين ،كما أوجدها ويوجدها انتهاك حقوق وحريات الناس وامتهان كرامتهم على نحو فرغ كيان الدولة الوطنية فى سوريا والعراق وليبيا واليمن من المصداقية وثيقة الارتباط بالثقة الشعبية فى عدل مؤسسات الدولة وفى حقوق المواطنة المتساوية التى لا تقبل الاختزال فى طوائف وأعراق دون غيرها، أوجدها ويوجدها حرب المستبدين والحكام السلطويين على العقل والعلم بغية إخضاع الشعوب لسطوتهم. أما الحرب على الإرهاب فلا تبرير غير متهافت بها للعصف بالحقوق والحريات، ولا شىء غير التهافت فى ادعاء اعتيادنا على المظالم والانتهاكات.
غير أن سيطرة السلطة الحاكمة فى مصر على الفضاء العام تسمح للاتهام بعدم واقعية المدافعين عن الحقوق والحريات بالحضور المستمر، بل وتعفى أصحاب الأصوات غير الصاخبة بين مؤيدى الحكم والمتشككين فى الفكرة الديمقراطية من العبء الأخلاقى والسياسب لتبرير الثمن الفادح الذى ندفعه مجتمعيا لتراكم الظلم والانتهاكات على نحو غير مسبوق فى جمهورية الخوف التى لن نعتادها أبدا.