«تهافت» ما بعد كورونا

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الثلاثاء 19 مايو 2020 - 12:34 ص بتوقيت القاهرة

لم تكد تمض بضعة أشهر على اندلاع جائحة وباء (كوفيدــ19) التى طالت حتى الآن زهاء أربعة ملايين إنسان وأزهقت أرواح ما يناهز ثلاثمائة ألف آخرين، كما تمخضت عن أسوأ ركود اقتصادى عرفه العالم منذ الكساد الكبير نهاية عشرينيات القرن الماضى، حتى انبرى الخبراء والمختصون فى استشراف مستقبل العالم عقب انفراج الأزمة، فيما هرع «متهافتو المابعديات» يستنفرون سوابقهم الفلسفية المابعدوية، مستلهمين طرح جرامشى بأن «العالم القديم يُحتضر بينما يناضل عالم جديد حتى يولد»، ليتباروا فى التنظير لحقبة ما بعد كورونا، بينما لم يتورع الرئيس الأمريكى ترامب عن مطالبة الصين بتريليونات الدولارات تعويضا لبلاده والبشرية جمعاء عن الأضرار الجسام التى ألحقها بهم الوباء، الذى حمل بكين مسئولية ظهوره وتفشيه عالميا، وكأن الوعى الجمعى الإنسانى لم يعد يبالى باستشرائه كالنار فى الهشيم مع غياب أى إرهاصات يقينية لانحساره، أو يكترث لتحذيرات الدوائر البحثية والطبية العالمية بأن الأسوأ منه لم يأتِ بعد.
واقعيا، ليس بمقدور البشر تجاوز محنة كورونا، بكل ما تنظوى عليه من هواجس وآلام، وولوج ما بعدها، قبل استعادة نسق الحياة الإنسانى لتوازنه المفقود منذ مطلع العام الجارى، عبر اقتحام عقبات مصيرية خمس. أولاها، علمية، تتمثل فى حتمية إيجاد لقاح يقضى على الفيروس المسبب للوباء ومصل يوقف انتشاره المتسارع. وثانيتها، اقتصادية، تنصرف إلى وجوب احتواء التداعيات الاقتصادية السلبية الموجعة للجائحة وإعادة تأهيل الاقتصاد العالمى للتعافى العاجل والآمن من وطأتها. وثالثتها، نفسية اجتماعية، تتجسد فى ضرورة تخطى الأعراض النفسية القاسية والارتدادات الاجتماعية الخانقة التى خلفها الوباء. ورابعتها، فلسفية معرفية، تتجلى فى لزوم التصرف بواقعية والفكاك من براثن إشكالية تهافت المابعديات. أما خامستها، فاستراتيجية، تكمن فى استخلاص العبر والرسائل التى انطوت عليها الأزمة تمهيدا لبلورة رؤية شاملة أو تصور متكامل لغد أفضل.
فبخصوص العقبة العلمية، وبينما يرهن علم الوبائيات الجزئية أفول الجائحة بانتهاء الفيروس وتوقف انتشاره، يبقى الحديث عما بعد كورونا من منظور طبى، رجما بالغيب، خصوصا مع تحذير منظمة الصحة العالمية من اندلاع موجات جديدة متتالية أوسع وأسرع انتشارا من فيروس كورونا المسبب لوباء (كوفيدــ19)، تجتاح ربع مليار شخص وتودى بحياة 150 ألفا آخرين فى القارة السمراء وحدها، كما توقعت أن يغدو كورونا صنوا لحياة البشر طيلة سنوات مقبلة، مع تدافع دول العالم لإنهاء الإغلاق، وتفنيد دراسات كندية لمزاعم تقويض درجات الحرارة والرطوبة العالية للفيروس، واستشهدت المنظمة بعودة الإصابات إلى دول سبق وأن سجلت تراجعا ملفتا بهذا الصدد بعدما أبلت بلاء حسنا فى احتواء الوباء، كالصين وكوريا الجنوبية، فى الوقت الذى لا يزال الغموض يكتنف مآلات جهود عالمية تسابق الزمن لإنتاج اللقاح الناجز، على الرغم من التقدم العلمى المذهل فى مجالات التكنولوجيا الحيوية والصناعات الدوائية وضخامة الاستثمارات العالمية فيها.
فلقد خفضت المنظمة سقف التوقعات العالمية بشأن سرعة إنتاج لقاح لفيروس كورونا، مؤكدة أن العلاجات المبشرة لا تزال فى أطوارها المبكرة، فيما لن يتجاوز تأثيرها المتوقع تقليص خطورة الوباء دون الإجهاز على الفيروس أو وقف انتشار العدوى، واستبعدت التوصل للقاح فى القريب العاجل، بالنظر إلى طول المدة اللازمة للبحث وإجراء التجارب والاختبارات، مع تعاظم الكلفة المادية التى تشعلها حسابات الربحية لدى شركات المنتجات الطبية أسيرة المخاوف من الإنفاق الضخم على إنتاج لقاح قد تضطر لطرحه بالأسواق عقب انحسار الوباء بما يقلص مبيعاتها منه ويكبدها خسائر فادحة، خصوصا مع تسابق قادة العالم فى المطالبة بتوزيعه مجانا، وتوقع الرئيس ترامب انقشاع الغمة دونما حاجة إليه، فضلا عن خصوصية التركيبة الجينية المحيرة للفيروس وقدرة سلالاته على التغير والتطور والمناورة وإحداث طفرات تتبدل خلالها أشكالها وسلوكياتها بما يجعلها أسرع انتشارا وأكثر شراسة فى مهاجمة الخلايا، وأشد مقاومة للعقاقير واللقاحات العصية أصلا على الابتكار. بموازاة ذلك، لم يتردد اختصاصيو أمراض مزمنة وخطيرة كالسرطان فى إبداء قلقهم من تباطؤ أنشطة الفحص والتشخيص والعمليات الجراحية المتعلقة بتلك الأمراض، بما قد يفضى إلى تراجع معدلات النجاة منها بجريرة الانشغال المفرط لجل العلماء ومراكز الأبحاث والمنظومات الصحية حول العالم بمحاولات استكشاف علاج لكورونا، الذى يؤكد خبراء الأوبئة المعدية وعلماء الأحياء الخلوية الدقيقة استحالة تحديد إطار زمنى، قابل للإثبات علميا، لطى صفحته.
وفيما يتصل بالعقبة الاقتصادية، وبينما لايزال العالم يئن من وطأة الآثار الاقتصادية المفجعة للجائحة مع توقعات بتفاقمها على وقع تطور حالة الوباء فى قادم الأيام، فيما يتوقع صندوق النقد الدولى، الذى قدم تمويلا طارئا لخمسين دولة من أصل 103 طلبت المساعدة، انكماشا للاقتصاد العالمى بنسبة 3 %، ليسجل أكبر تراجع منذ الكساد الكبير، فى حين تجاوزت ديون العالم 350 تريليون دولار، بما نسبته 322 %من الناتج المحلى الكونى، يبقى الأمل فى إيقاف ذلك النزيف الاقتصادى القاتل مرتهنا بأن تؤتى مساعى احتواء الوباء أكلها، حيث يؤكد أوستن كولسبى، المستشار الاقتصادى للرئيس الأمريكى السابق أوباما، أن القاعدة الأولى فى علم «اقتصاد الأوبئة» تقتضى حتمية الإجهاز على الوباء قبل الشروع فى استنهاض الاقتصاد، استنادا إلى عدم جدوى أى برامج تحفيزية فى ظل الإغلاق الكبير؛ فيما يؤدى التوصل لعلاج ناجع للفيروس إلى انبعاث النشاط الاقتصادى العالمى.
وأما عن العقبة النفسية الاجتماعية، فبعدما انتهى علم سيكولوجيا الأوبئة، إلى أن الأخيرة تخلف موجات من الخوف الجماعى، وتنتج دوامة من التناقضات القيمية، مما يولد حالة من «انعدام اليقين» سواء لجهة احتمالات الإصابة بالوباء، أو التوقعات المتعلقة بتوقيت وكيفية انجلائه، فى ظل فقر المعلومات الدقيقة أو تضاربها، وغياب أفق واضح ومؤكد لظهور لقاح، ذهب خبراء إلى أن الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية القاسية لأزمة كورونا وما تستتبعه من ضعف بالمناعة النفسية للفرد والمجتمع مع طول أمد الحجر والعزل، من شأنها أن تهدد الصحة النفسية للبشر إثر شيوع العديد من الأمراض النفسية والسلوكيات الاجتماعية العدوانية، التى تم رصدها فى بقاع شتى من العالم، كتصاعد موجات القلق والإحباط والشعور بالوحدة القاتلة، وتنامى نوبات الهلع والاكتئاب والميول الانتحارية، وتفاقم معدلات الطلاق والعنف الأسرى والمنزلى. وعلى غرار العديد من الأوبئة التى يقترن ظهورها ببعض الإثنيات مما يولد مشاعر وسلوكيات غير ودية حيال المنتمين لها، حسبما أورد المؤرخ الأمريكى شلدون واتس فى كتابه «التاريخ والأوبئة»، فقد نال ذوو الملامح الصينية، بالتزامن مع تفشى فيروس كورونا عالميا بعد انطلاقه من بؤرته الأصلية فى ووهان الصينية، نصيبهم من الاستبعاد والتمييز فى غير موضع من البسيطة، حتى برزت مصطلحات من قبيل «الصينوفوبيا» أو رهاب الصينيين أو الخوف منهم ونبذهم، وربما الاعتداء عليهم، باعتبارهم حاملين للوباء وناقلين لعدواه.
وبناء عليه، اتفق فرانك سنودين فى كتابه «الأوبئة والمجتمع»، مع باحثين كثر، على أن البشر يتهافتون للترويج لما بعدية الوباء، مدفوعين برغبة عارمة فى تجاوز كل هذه الضغوط والمرارات، ولو فى مخيلاتهم. وبنفس المنطق، ارتأى المؤرخ الطبى جيريمى رين، أن نهاية الوباء لا تتأتى عندما ينجح البشر فى قهره بإنتاج علاج، بل حينما يسأموا العزل ويقرروا التخلص من خوفهم والتأقلم مع الجائحة. وهو الأمر الذى أسقطه الأكاديمى ألان برانت، على كورونا، الذى اضطرت غالبية الدول لتجشم مغامرة التعايش معه بإعلانها إنهاءً تدريجيا حذرا لحالة الإغلاق والطوارئ بعد مضى خمسة أشهر ونيف على ظهور الفيروس، ومرور أكثر من شهرين على اعتبار الوباء جائحة عالمية تستوجب اتخاذ إجراءات تقييدية وتدابير احترازية صارمة لمحاصرته والحد من انتشاره.
ولما كانت الرغبة البشرية الجامحة فى كسر حصار الطبيعة الذى فرضه كورونا، تنبلج، فى الأساس، من أتون ذلك المعترك النفسى الملتهب، فقد أبدع الكاتب الكوبى ليوناردو بادورا، فى تسليط الضوء على عواقب «زهو الإنسان الزائف بالانتصار على الجبهة البيولوجية التاريخية الطبيعية، ونشوته الوهمية بهزيمة جميع الكائنات الأرضية، إذ سرعان ما يجد نفسه محاصرا من حشرة مجهرية قادرة على هزيمته والزج به خلف قطبان زنازين خوفه الأبدى والمروع من الموت». وهو الأمر الذى يعتبره بادورا انتقاما للطبيعة من الإنسان بجريرة إسرافه فى العبث بمكنوناتها وإمعانه فى البطش بمقدراتها. وبينما كانت الأوبئة والنوازل المرضية توفر، على بشاعتها وكآبتها، مادة خصبة وثرية لما يعرف بأدب الأزمات، فقد أدلى رائد الواقعية العجائبية الروائى الكولومبى الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز، صاحب نوبل فى الآداب عام 1982، ومؤلف رواية «حب فى زمن الكوليرا»، بدلوه فى هذا السجال بالقول: «ما يزعجنا فى الجوائح الوبائية، أنها تضع الإنسان فى مواجهة اضطرارية مباشرة مع المصير البشرى المحتوم».
وفيما يختص بالعقبة الفلسفية المعرفية، يمكن الادعاء بأن المهرولين لاستحضار ما بعد كورونا قد وقعوا فى شرك «تهافت المابعديات» وكأنهم كانوا يتحينون الفرصة لاستعادة ألق الفلسفة الذى أذابه وهج الثورة التكنولوجية، ملتمسين نهجا نوستالوجيا يوارى عجزهم عن مجابهة تحديات واقعهم. لهذا السبب، وغيره، أخفقت المابعديات فى الارتقاء إلى مستوى النموذج المعرفى أو التفسيرى، الذى أصل له توماس كون فى مؤلفه المعنون «بنية الثورات العلمية». إذ يكاد يجمع مفكرون كثر على أن طروحاتها المستوحاة أصلا من السوريالية والميتافيزيقا قبل أن تتسلل إلى الدراسات الفلسفية والنقدية، ليست سوى شطحات فكرية عبثية تستجلب التضليل المعرفى، وفقا للمفكر المصرى عبدالوهاب المسيرى. فخلافا لمدلول اصطلاح المابعدية الذى يعد إفرازا فلسفيا لجيل لاحق يستنبطه من خبرة الجيل السابق له بقصد توصيف حالة الصيرورة المعرفية بين حقبتيهما، يتهافت المتهافتون اليوم على التبشير بما بعد كورونا، رغبة فى الهروب إلى الأمام من أهوال أزمة أخفقوا فى احتوائها، فى حين يتعذر على العالم فعليا العروج إلى تلك الحقبة، قبل النجاة من كابوس (كوفيدــ19)، الذى لا يلوح فى الأفق أى مؤشر، يعتد به علميا، لاقتراب الخلاص من ربقته على أى مقياس واقعى.
وكم من ما بعديات تفانى منظروها فى التنظير لها بينما لا يفتأ العالم يرزح فى أغلال ما قبلها. فعلاوة على أوهام ما بعد الصهيونية وتراهات ما بعد الإسلام السياسى، عديدة هى المجتمعات التى غاصت نخبها الفكرية فى غياهب جدل فلسفى ممتد بشأن ما بعد الحداثة بينما لايزال جل قاطنيها يكابدون آلام مخاض «ما قبل الدولة»، سواء من حيث أنماط الانتاج الرعوية أو لجهة سطوة التقاليد الرجعية، حسبما رصد الأنثربولوجست كلاستر فى دراسته المعنونة بذات المسمى. وما كاد الأمريكيون يتفاخرون بصكهم مصطلح «ما بعد الاستعمار» إبان إطلاقهم مشروع مارشال لإغاثة أوربا عقب الحرب الكونية الثانية، ليكون بمثابة مانيفيستو أفول عهود الاحتلال والانتداب والوصاية، حتى استحدثوا، فى بضع سنين، نمطا جديدا من الكولونيالية، أسماه الفيلسوف الفرنسى سارتر، «الاستعمار الجديد»، كونه يستبدل الجنود والثكنات بالأسواق والأفكار التى تعيد إنتاج المأساة، بينما سبق لمالك بن بنى التحذير منه بين طيات تأصيله الرصين لاستلاب ضحية الاستعمار بالمعنى الخلدونى، عبر تبنيه للأفكار التى يستتبعه بها المستعمر عن بعد عقب جلائه.
تبقى العقبة الاستراتيجية، التى تنشد الانطلاق من الأزمة صوب عالم أفضل، ليس من خلال قهر الوباء وعبور الجائحة فحسب، ولكن عبر بلوغ حلم البشرية المزمن والمستعصى بنظام عالمى أمضى عدالة، وعلاقات دولية أكثر إنسانية. وفى هذا المضمار، تبدو أطروحة هنرى كيسنجر فى مقاله بجريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية الشهر الماضى، والتى طالب خلالها بأن «تتواكب مساعى احتواء وباء(كوفيدــ19) مع عملية إطلاق مشروع كونى للانتقال إلى حقبة ما بعد كورونا»، جديرة بالبحث والتأمل. فإذا كان التعايش مع الجائحة يستوجب مواصلة الالتزام بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية، فضلا عن تقوية أواصر التعاون الدولى فى جهود التشخيص والعلاج وإنتاج لقاح ناجز تحت مظلة منظمة الصحة العالمية، فإن الاقتحام الشجاع لعقبة كورونا توطئة لوضع أسس راسخة لمستقبل أكثر إشراقا فى عقبها، لن يتأتى قبل أن تتبرأ دول العالم من المثالب التى عرتها الجائحة، بحيث تتخلى عن إشعال الحروب وتأجيج سباقات التسلح توخيا للهيمنة والنفوذ، وتقلع عن توظيف الجوائح الوبائية لتصفية الحسابات المعنية بالتنافس والصراع، على أن تولى اهتماما مستحقا بقضايا الصحة والبيئة والمناخ، وتطلق يد الأمم المتحدة وتذعن لنداءات أمينها العام بوقف الحروب وتسوية النزاعات وتعليق العقوبات وتوحيد جميع الجهود بغية قهر الوباء.
غير أن الاستجابة الصادمة للفاعلين الدوليين، بمختلف مستوياتهم، لتحدى كورونا المصيرى، وإصرارهم الأرعن، طيلة الشهور الستة التى تشكل عمر الجائحة، على مباشرة التخبط الجامع فى ذات الدرب الموحش بنفس المبادئ والسياسات والآليات المضللة، لا تشى مطلقا، بأن العالم قد استوعب الدرس ووعى الحكمة من وراء المحنة، بما يؤهله للمضى قدما فى تلمس السبل الكفيلة بتحويلها إلى منحة يستعين بها فيما هو آت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved