أخطر ما يمكن أن يعترض أى بلد اهتزاز ثقته فى نفسه ومستقبله.
باهتزاز الثقة العامة قد تضيع كل قضية ويتبدد أى معنى.
حسب قوانين الطبيعة والحياة والسياسة فإن لكل فعل رد فعل يساويه فى القوة ويضاده فى الاتجاه.
هكذا تنشأ إرادة المقاومة بعد هزائم الحروب وانكسار الثورات والكوارث السياسية المباغتة.
غير أنه فى الوقت نفسه تتولد مشاعر العجز والكآبة العامة وتضغط الأسئلة الكبرى على الضمير العام:
لماذا فشلنا فى الدفاع عن بلادنا وسلامة أراضيها وكل ما له قيمة ووزن فى اعتبارات الأمن القومى؟
لماذا لم نحفظ للتضحيات قضيتها ومعناها؟
مشاعر الكآبة العامة طبيعية بقدر فداحة الأحداث التى استدعتها كالأجواء التى تعيشها مصر الآن تحت صدمة تسليم جزيرتى «تيران» و«صنافير» رغم الأحكام القضائية الباتة.
غير أن الشعور بالعجز إذا تجاوز حده يتحول إلى قيد على أية فرصة لتصحيح الأوضاع المختلة.
باستيحاء عبارة المفكر الإيطالى «أنطونيو جرامشى» عن «تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة» فإن أى بلد يحتاج أمام مثل هذا النوع من الأزمات أن يواجه الحقائق أيا كانت مرارتها وأن يمتلك فى الوقت نفسه إرادة تحديها بكل ثقة ممكنة.
لقد تعرضت مصر فى عصورها الحديثة طويلا وكثيرا لأزمات الضمير العام حتى بدت أنها خسرت نفسها قبل أن تخسر مستقبلها، غير أنها ـ بعد تضحيات ومعارك ـ نهضت من تحت الرماد كأنها العنقاء.
هذه حقيقة تاريخية لا مجال للتشكيك فيها.
كانت أول أزمة ضمير عام ما ترتب على هزيمة الثورة العرابية والاحتلال البريطانى لمصر عام (١٨٨٢) من تصفيات حسابات دخلت فى الضمائر ومكنونات الصدور، سفهت الثورة والثوار ومنحت الخونة أنواط التكريم مثل الضابط «يوسف خنفس«، الذى قاد القوات البريطانية إلى المعسكرات المصرية فى موقعة التل الكبير.
لعقدين كاملين دخلت مصر فى صمت مطبق، هزيمة كاملة بالروح قبل مدافع الاحتلال.
كانت تلك محنة ضمير عام راهن على الثورة وشارك فيها وعرض حياته ثمنا لنجاحها فإذا به تحت ضغط الهزيم يخسر يقينه بقضيته.
شىء ما تحت الرماد احتفظ بجذوة الثورة حتى أطلت من جديد فى الحركة الوطنية التى قادها الزعيم الشاب «مصطفى كامل» فى السنوات الأولى من القرن العشرين.
كانت من بين عباراته التى انطلقت كالأمثال: «لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس».. و«إن من يفرط فى حقوق بلاده ولو مرة واحدة يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان».
هكذا مضت مصر بعد الحرب العالمية الأولى إلى ثورة ثانية فى عام (١٩١٩) بزعامة «سعد زغلول».
لم يكن الطريق سالكا بين الثورتين، يأس وإحباط وتساؤلات طرحت نفسها على الضمير العام: إذا كانت ثورة «عرابى» «هوجة» فهل انخدعنا؟.. كيف انهزمنا وانكسر حلم أن تكون مصر للمصريين؟.. من نصدق: أبواق الاحتلال أم دماء الشهداء؟
التساؤلات المعذبة لم تجد إجابة عنها، فقد كانت إدانة الثورة العرابية عاتية وشاملة، حتى رد اعتبارها على عهد «جمال عبدالناصر» بعد ثلاثة أرباع قرن من التشهير المنهجى.
لأسباب أخرى لم تتمكن ثورة (١٩١٩) من تحقيق هدفيها الرئيسيين فى نيل الدستور وتحقيق الجلاء.
جرى الانقضاض على دستور (١٩٢٣) إنجازها الأكبر، ولم يحكم حزب الأغلبية الشعبية «الوفد» سوى سنوات معدودة.
دعت أسباب النكسة السياسية للبحث عن طرق جديدة لنيل الجلاء، وقد كان آخر مشهد جليل لزعيم الوفد «مصطفى النحاس» إلغاء اتفاقية (١٩٣٦)، التى وقعها بنفسه مع سلطات الاحتلال عام (١٩٥٠).
فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ونداءات التحرر الوطنى انفسح المجال واسعا للثورة الثالثة فى (٢٣) يوليو (١٩٥٢)، وقد كانت الثورة الوحيدة التى حكمت وفق برنامجها ومشروعها وتصدر السلطة قادتها.
حاربت وأنجزت، تقدمت وتراجعت، ألهمت التغيير لكن بنية نظامها عجزت عن حماية البلد فى حرب (١٩٦٧)، وهكذا خذل النظام مشروع يوليو.
بقدر الأحلام التى حلقت بدت ردة الفعل قاسية على ما جرى فى ميادين القتال.
لماذا انهزمنا على هذا النحو الفادح؟
كان السؤال تعبيرا عن أزمة ضمير عام حقيقية كبيرة تحاول أن تفهم وتراجع أسباب الهزيمة، وكيف تناقضت الأحلام الكبرى مع حجمها المروع؟
هناك من اكتئب وانعزل مثل شاعر العامية الراحل «صلاح جاهين» وطارده سؤاله: هل أسهمت أغانيه للثورة فى خداع الناس؟
وهناك من انتسب ليوليو بعد هزيمتها مثل الأديبين «بهاء طاهر» و«محفوظ عبدالرحمن» بدافع الوطنية المصرية قبل أى شىء آخر.
لم يخدع «صلاح جاهين» نفسه ولا غيره، فقد كانت الانجازات تسابقه والمعارك تزكى الأمل، وليست مسئوليته أن هناك دولة نشأت داخل الدولة أطلق عليها «عبدالناصر» بنفسه «دولة المخابرات» ضربت صميم المشروع كله.
ولا خالف «بهاء» و«محفوظ» الروح العامة ـ روح المقاومة ـ التى غلبت المشهد داعية إلى تحرير الأرض المحتلة بقوة السلاح.
بأثر هزيمة يونيو جرت مراجعات واسعة داخل مصر وخارجها، تراجع المشروع القومى وصعدت مشروعات أخرى.
رغم النصر فى أكتوبر جرى سعى محموم لتكريس هزيمة يونيو بالذاكرة العامة ـ كشعب مهزوم لا سبيل إلى الخروج من هزيمته.
كان ذلك استثمارا سلبيا فى أزمة الضمير العام.
ضغط على الوجع حتى لا يصح الجسد ولا تتعافى الروح.
أزمات الضمير العام آثارها تؤثر فى بنية الأخلاق العامة وفى النظر إلى السياسة وقضاياها وأولوياتها، وقد تصل فى بعض الحالات إلى تخوم اليأس.
رغم الهزيمة لم تقع مصر فى مصيدة اليأس، وتجاوزاتها بإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية أبعدتها نهائيا عن أى أدوار سياسية، صححت بقدر ما أمكنها أسباب الهزيمة غير أن النصر ذهب لغير أصحابه ودخلت مصر بعد أكتوبر فى أزمة ضمير عام جديدة.
لماذا حاربنا وضحينا دما وعرقا إذا كانت النتائج السياسية قد خذلت بطولات السلاح؟
هل قاتلنا من أجل التوصل إلى معاهدة «كامب ديفيد»، التى كان يمكن الحصول على أفضل منها دون قتال مقابل خروج مصر من الصراع العربى الإسرائيلى؟
وهل قاتلنا من أجل طبقة من «القطط السمان» أنشئت لتوفر قاعدة اجتماعية لهذا النوع من السلام؟
هذه الأسئلة مازالت تلح بصيغ مختلفة على الضمير العام ـ كأنها كابوس.
المعانى التبست والحقائق بهتت وبدا التدليس عنوانا على حقب تتالت.
هكذا مضت الأمور حتى ثورة «يناير».
بدت هناك فرصة لتصحيح التاريخ ومعرفة ما جرى من تنازلات فادحة حتى وصف الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» بأنه «كنز استراتيجى لإسرائيل».
غير أن تلك الفرصة ضاعت، وقد كان ذلك خطأ فادحا لـ«يناير» ما زلنا ندفع ثمنه الباهظ حتى الآن.
هكذا مضت الأمور حتى انتقال السلطة إلى جماعة الإخوان المسلمين.
تكررت نفس السياسات الاجتماعية والاستراتيجية التى اتبعها «مبارك».
وبدا أن قضية الاستقلال الوطنى لها الأولوية الكاملة، غير أن كل شىء عاود سيرته الأولى كأننا لم نغادر «حقبة السادات».
الأسوأ أن وزير الدفاع الإسرائيلى اعتبر تسليم الجزيرتين انتصارا لإسرائيل يستحق تهنئة جيشها، ودليلا على أن بلاده كان لها الحق فى حرب (١٩٦٧) باعتبار أن «عبدالناصر» أغلق مضيق «تيران» الذى هو باعتراف البرلمان المصرى ليس مصريا.
بعبارة أخرى فإنها إقرار بالهزيمة بأثر رجعى رغم بطولات الرجال والسلاح والتضحيات والأحلام والجراح.
هكذا ضاقت الحلقات على الضمير العام، ثورته أجهضت وشهر بها والماضى عاد كأن شيئا لم يحدث، كل شىء فى انكشاف، وكل تضحية بلا ثمن، وكل حلم بلا أرض يقف عليها، وكل أمل معلق فى الفراغ.
هذه أوضاع خطرة على البلد ومستقبله تنذر بكوابيس.
بأمل فى المستقبل أرجو ألا ترفع أية راية بيضاء.