التأسلم والتنور حسب البوصلة الأمريكية
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الخميس 18 يوليه 2019 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
للحديث فى هذا الموضوع اليوم سببان، الأول هو صدور كتاب المفكر الأمريكى المنشق الشهير ناعوم تشوميسكى: «سخط عالمى.. مناقشات حول التهديدات المتصاعدة للديمقراطية»، والثانى هو توسع بعض كتابنا ومفكرينا فى تخطئة ما يعتبرونه جوانب دينية إسلامية فى الصراع مع إسرائيل.
فى كتابه الجديد يؤكد تشوميسكى أن السياسات الأمريكية الفاعل الأصلى فى ظاهرة الإرهاب «الإرهاب الإسلامى»، سواء بتحالفاتها الإسلامية والعربية المتناقضة، أو بسبب القتل والدمار الناتجين عما يسمى بالحرب على الإرهاب، وبالطبع بسبب قضية فلسطين كصراع بين إسرائيل كطرف مضطهد (بكسر الهاء) تسانده الولايات المتحدة على طول الخط، وبين طرف مضطهد (بفتح الهاء) وهو الشعب الفلسطينى.
لا تحفظ لدينا على تحليل تشوميسكى، ولا خلاف معه، لكن عندنا ما نضيفه إلى هذا التحليل من منظور مواطن عربى مسلم ينتمى إلى هذه المنطقة من العالم، ويهتم بتطورات وتعقيدات العلاقة بين الإسلام السياسى والسياسة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشوب الحرب الباردة، ومنذ قيام دولة إسرائيل، فقد سارت هذه العلاقة فى مسارات متكاملة أحيانا إلى حد التحالف، ومتعرجة أحيانا أخرى، ومتناقضة فى أحيان ثالثة إلى حد الصراع الدامى.
كانت بداية اتصال الولايات المتحدة بتنظيمات الإسلام السياسى هى تسلم مخابراتها للجماعات المنشقة من الجمهوريات السوفيتية الإسلامية من المخابرات الألمانية بعد هزيمة النازية، كما يرصد الكاتب إيان جونسون فى كتابه «مسجد فى ميونخ» الصادر عام 2010، وكانت الخطة هى توظيف هؤلاء المنشقين لإثارة القلائل ضد السوفيت فى بلدانهم، وكانت تلك هى لحظة اكتشاف أهمية الدين الإسلامى وتنظيمات الإسلام السياسى فى مكافحة وحصر المد الشيوعى فى الشرق الأوسط وكل الدول الإسلامية، وكان مسجد ميونخ الذى أسسه هؤلاء المنشقون الآسيويون هو النواة الصلبة فيما بعد للتنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، حين سيطر عليه رجالها بقيادة سعيد رمضان المصرى وغالب همت السورى، فى ذات الحقبة حدث أول اتصال علنى، بين الدبلوماسى الأمريكى فى السعودية هيرمان آيلتس (السفير فيما بعد فى القاهرة) وبين مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، ويضيف آيلتس أنه كان يعلم بوجود قناة اتصال منتظمة بين الدبلوماسيين فى القاهرة وبين الشيخ البنا، لكن المحطة الأبرز جاءت عام 1953، وتشتهر باسم مؤتمر برينستون، نسبة إلى الجامعة الأمريكية الشهيرة التى استضافت هذا المؤتمر تحت غطاء أكاديمى بحت، بينما كان الهدف الحقيقى هو جمع خبراء مسلمين فى التربية والعلوم والقانون والفلسفة، من القادرين على التأثير فى الحياة السياسية فى بلدانهم، من أجل إحداث نهضة إسلامية تقاوم الشيوعية، عن طريق تقديم بديل مقبول فى أوساط المسلمين، كما قال فى حديثه فى الجلسة الافتتاحية مظهر الدين صديقى مؤسس مركز لاهور الإسلامى فى باكستان، والقطب الثانى لمؤتمر برينستون إلى جانب سعيد رمضان.
من المشهور أن الرئيس الأمريكى وقتها دوايت آيزنهاور استقبل المؤتمرين فى برينستون فى البيت الأبيض، بنصيحة من سفيره فى القاهرة جيفرسن كافرى، الذى كتب إلى رئيسه يقول «إن الإخوان المسلمين فى مصر، وحلفاءهم فى الجماعة الإسلامية فى باكستان يمكن أن يكونوا حلفاء جيدين ضد الشيوعية، وضد حركة القومية العربية ذات المنحى اليسارى».
قبل ذلك كتب دين أتشيسون وزير الخارجية فى إدارة الرئيس هارى ترومان السابقة مباشرة على إدارة آيزنهاور إلى دبلوماسييه فى الدول العربية يكلفهم بالبحث عن «بيلى جراهام» المسلم، أى عن داعية دينى مسلم ذى كاريزما جماهيرية، يستغل وسائل الإعلام الحديثة لتعبئة مشاعر جموع المسلمين ضد الشيوعية، على نحو ما فعل المبشر الانجيلى الأمريكى الشهير وقتها بيلى جراهام، وهو ما تأخر ظهوره حتى مابعد حرب أكتوبر 1973، حين توالى ظهور الدعاة التليفزيونيين بتنسيق مصرى سعودى أمريكى.
ليكن واضحا للجميع أن الحديث يدور هنا حول حلفاء ضد عدو مشترك، وليس عن عملاء بالمعنى المبتذل لهذه الكلمة، لكن ما لم ينتبه اليه أو يتوقعه الإخوان وحلفاؤهم وهؤلاء الدعاة الجدد فى هذه المرحلة المبكرة من تحالفهم مع الولايات المتحدة ضد الشيوعية أن هذا التحالف ليس إلا حول قضية واحدة لا تخدم سوى المصلحة الأمريكية، بمعنى أن ذلك التحالف لم يهتم من قريب أو بعيد بالقضية الفلسطينية، أو بتحرير الدول العربية والإسلامية التى كانت لا تزال مجرد مستعمرات بريطانية وفرنسية، بل لم يرد على خواطر الإسلاميين فى ذلك الوقت أى تصور ــ فضلا عن خطة ــ لتحرير موارد وثروات المسلمين من النهب الاستعمارى، الذى بدأت امريكا نفسها تشارك فيه، ولهذا جاز لنا وصف ذلك التحالف بالتأسلم حسب البوصلة الأمريكية.
يعرف الجميع أن هذا التحالف اطرد عبر عدة محطات تالية، أبرزها مشروع الحلف الاسلامى فى ستينيات القرن الماضى، ثم الجهاد الأفغانى ضد الاحتلال السوفيتى منذ أواخر السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات من ذلك القرن، ليظهر الشرخ الواسع والعميق بين الإسلاميين وبين الولايات المتحدة بمجرد انتهاء الحرب الأفغانية، وتنكر الولايات المتحدة «للمجاهدين» بل وانقلابها عليهم، فى الوقت الذى أضافت الثورة الإسلامية فى إيران فيه تناقضا جديدا وحادا بين الإسلام الشيعى وبين الولايات المتحدة، ثم ليأتى الغزو الأمريكى للصومال عام 1992 تحت مظلة الأمم المتحدة فيحول ذلك الشرخ فى علاقات الإسلاميين مع الولايات المتحدة إلى صراع دموى مفتوح بلغ ذروته بهجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على واشنطن ونيويورك، وما تلاها من حرب أمريكية مفتوحة على «الإرهاب الإسلامى»، تضمنت غزوا لأفغانستان، والعراق (مع إضافة ذريعة إنتاج نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل)، كما تضمنت تلك الحرب ــ ولا تزال ــ عمليات شبه يومية فى اليمن والصومال وسوريا والصحراء الإفريقية.
لم تؤد استراتيجية «الارتباط البناء» بين الولايات المتحدة وبين جماعة الإخوان المسلمين التى بدأتها كوندوليزا رايس وزيرة خارجية بوش الابن عام 2007، واستكملتها إدارة أوباما إلى استعادة التحالف القديم بين الولايات المتحدة وبين ما يسمى بالإسلام السياسى المعتدل، وذلك من أجل تحييد وحصر الجماعات المتطرفة المسلحة التى تكاثرت كالفطريات، من عينة داعش وبوكو حرام، والذئاب المنفردة هنا وهناك فى الغرب والشرق وفى الشمال وفى الجنوب، الأمر الذى مهد ــ إلى جانب مشكلات الهجرة واللاجئين ــ إلى وصول السياسات المناهضة للاسلام والمسلمين عموما إلى مراكز القرار فى واشنطن نفسها، وفى عدة عواصم غربية أخرى بقيادة الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب.
إلى جانب سياسات ترامب ونظرائه المعروفة للحد من الوجود الإسلامى فى دولهم، ولإقامة تحالفات دولية وإقليمية ضد «الإرهاب الاسلامى» ونبذ سياسة بوش وأوباما فى التمييز بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، والاغضاء عن انتهاكات حقوق الإنسان بذريعة الحرب ضد الإرهاب.. إلى جانب كل ذلك يشهد القضاء العربى الإسلامى ما يسمى باجتهادات تنويرية، يمكن وصفها بالوجه العكسى للتأسلم حسب البوصلة الأمريكية، لذلك سميناها بالتنور حسب البوصلة الأمريكية، لكن لسوء الحظ فإن البوصلة الأمريكية فى هذه الحالة الأخيرة هى نفسها محكومة بالبوصلة الإسرائيلية، ويفسر ذلك دون حاجة إلى الإسهاب الأحاديث المتواترة عن خطأ الاعتقاد بوجود المسجد الأقصى بالقدس، مترافقة مع قرار ترامب بالاعتراف بها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية اليها، والتركيز على الزوايا المعتمة فى التاريخ الإسلامى، والتسفيه المنهجى لإنجازات وأفكار التحرر الوطنى (دون تبرير من جانبنا للطغيان والفساد)، وأخيرا الترويج للصراع السنى الشيعى فى مقابل الترويج للتحالف مع اليمين المتطرف العنصرى الحاكم فى إسرائيل، وإن لم يقبل الفلسطينيون فعليهم أن يصمتوا.