العالم الخارجى والأزمة المصرية
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 18 أغسطس 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
استحكمت الأزمة المصرية المحتدمة منذ شهور عدة بفض قوات الأمن لاعتصامى أنصار الرئيس السابق محمد مرسى فى قلب القاهرة. العالم الخارجى حاضر فى الأزمة المصرية خلال كل هذه الشهور فهو يتخذ المواقف مما يحدث فى مصر، والأطراف المصرية فى الأزمة، من جانبها، إما تستنكر هذه المواقف، أو تندد بغيابها أو تستدعيها. المفارقة هى أن الأطراف المصرية الداعية إلى الاندماج فى المجتمع الدولى، المشددة على القيم والمبادئ المشتركة للبشر ودولهم، هى الأكثر تنديدا بالعالم الخارجى وبمواقفه من الأزمة المصرية. التيارات السياسية والاجتماعية المساندة للبرنامج السياسى المعلن فى 3 يوليو، ومنها تلك المتمسكة بحقوق الإنسان المتعارف عليها فى النظام الدولى، المتعلقة بمبدأ المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين، الحريصة على استقلال كل من المجالين السياسى والدينى عن الآخر، تدين مواقف الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى، والاتحاد الإفريقى، بل والأمم المتحدة، وتعتبر أن هذه الأطراف الدولية لا تعير اهتماما لمطالبة عشرات الملايين بوضع حد لحكم الرئيس السابق، بل تدعو هذه الأطراف المصرية إلى تجاهل مواقف الأطراف الدولية والمضى فى تحقيق مصلحة مصر كما يراها المصريون. فى المقابل، الإخوان المسلمون وغيرهم من أنصار الرئيس السابق غير القابلين لمجتمع الدول الوطنية، المشككين فى مبادئ المجتمع الدولى وقيمه، المتمسكون بالخصوصية الثقافية، هم الذين يستدعون لنجدتهم المجتمع الدولى وأطرافه الفاعلة بل ويبتزونها ويعلنون أنها منافقة لأنها لم تتخذ مواقف مطابقة لمواقفهم باعتبار أنها لم تعلن على الملأ أن الإطاحة بالرئيس السابق هى انقلاب عسكرى صريح.
يغيب عن التيارات السياسية المساندة لبرنامج 3 يوليو أن ثمة محددات لمواقف الأطراف الدولية تنبع من ثقافتها السياسية ومن منطق وجود أنظمتها السياسية ذاته. فى الدول الديمقراطية فى غرب أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرهما إجراءات الديمقراطية لم تصبح فقط التعبير عن الديمقراطية بل إنها أصبحت هى الديمقراطية. الانتخابات وما يدور حولها صارت حجر الأساس فى شرعية هذه الأنظمة السياسية. ليس فى هذه المواقف تجن مقصود على مصر، وإنما هى قياس على طرائق عمل الأنظمة السياسية فى هذه الدول. لذلك فإن التشديد على الإجراءات فى تفسير إنهاء حكم الرئيس مرسى لم يكن كافيا. العريضة التى وقع عليها الملايين، وتظاهر الملايين ومطالبتهم باستقالة الرئيس وبانتخابات رئاسية مبكرة كانت تعوزها أسانيد أخرى. كان من المفيد التركيز على الأسباب التى دعت الملايين إلى سحب ثقتها من الرئيس السابق فهى أسباب تتعلق بقيم الديمقراطية ومبادئها وبنتائج العملية الديمقراطية. نظام الرئيس السابق عرَّض سلامة الأراضى المصرية للخطر بقبوله لاستيطان عناصر العنف المسلح لشمال سيناء، وهو سكت على التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمذهب، وقوّض حقوق المرأة، وزحف لاحتلال جهاز الدولة دون مراعاة للكفاءة، وأدار ملفات الدولة باستهتار أدى إلى ما يشبه الانهيار الاقتصادى. باختصار نظام الرئيس السابق أخذ يفكك فى أسس الدولة الحديثة، بل وطمح إلى إلى تغيير طبيعة المجتمع، فهل يسمح النظام الديمقراطى بذلك؟ انتخاب رئيس أو أغلبية يمنحهما تفويضا بإدارة الدولة، ولكنه لا يعطيهما رخصة لهدم هذه الدولة أو لتغيير طبيعة المجتمع. هل من المفترض أن ينتظر مجتمع يحرص على طبيعته وعلى دولته حتى تحين الانتخابات التالية، بينما قد يكون وقت إنقاذ المجتمع والدولة قد فات عندها؟ الأمر كان يحتاج نقاشا حول الديمقراطية وبنائها ولكن قوى 30 يونيو و3 يوليو أحجمت عن الدخول فى هذا النقاش. لم يكن باستطاعة القوى الفاعلة فى العالم الخارجى المحاجاة فى شأن قيم الديمقراطية ومبادئها، ونتائجها، إذا ما وضع هذان المعياران على قدم المساواة مع اجراءات الديمقراطية المتمثلة فى الانتخابات.
أما الاتحاد الأفريقى، فلا بد من فهم ظروفه أيضا. لقد انتشرت فى أفريقيا من السبعينيات إلى التسعينيات من القرن الماضى الانقلابات التى عرقلت العمليات السياسية الدستورية فى دول القارة وعرضتها للتفكك. لذلك حرص الاتحاد الافريقى على ردع السياسيين والعسكريين الأفارقة عن تنظيم الانقلابات، ومن هنا نصه فى نظام الأمن والسلم الأفريقى على تعليق مشاركة الدولة، التى تتعرض العملية الدستورية فيها للعرقلة، فى اجتماعات الأجهزة المختلفة للاتحاد. سحب النقاش إلى أرضية جوهر الديمقراطية، وليس اجراءاتها فقط من شأنه تفكيك حجج نظام السلم والأمن الأفريقى.
الإخوان المسلمون وأنصارهم يطالبون الدول الديمقراطية وفى مقدمتها الولايات المتحدة بمساندة موقفهم مساندة صريحة ومطلقة. هم يغفلوا عن أن الدول الديمقراطية، وإن كانت قَدمت الانتخابات على غيرها من معايير الديمقراطية، فإنها لا تستطيع أن تغض الطرف تماما عن معيارى القيم والمبادئ، والنتائج. الولايات المتحدة ربما تكون قد حبَذت حكم الإخوان المسلمين باعتبارهم قادرين على حفظ الاستقرار وبالنظر إلى قبول الناس لهم. أما وقد اتضح حكمهم ملفوظ وأن الناس تعترض عليهم، فإن الأطراف الدولية تتذكر أن الإخوان المسلمين لا يقبلون مبادئ المجتمع الدولى وقيمه، وأن هدفهم الأبعد الخروج عليه وعليها. الإخوان لا يمكنهم أن ينتظروا من الأطراف الدولية الفاعلة أكثر مما قدمته لهم بالفعل.
تبقى مسألة فض الاعتصامين ومئات الضحايا التى خلَفها. أيا كانت الظروف والأسباب فإن لسقوط مثل هذا العدد من الضحايا تكلفة سياسية على أى نظام حكم. من المهم ألا تعالج المسألة بمعزل عن المسألة الأوسع للقيم الديمقراطية. غير أنه ينبغى أيضا إبراز أن العنف عند الفض وبعده كان متبادلا، واسترعاء الانتباه إلى مهاجمة الكنائس والاعتداء على منشآت الدولة وحرق أقسام الشرطة قطع الطرق والتى لا يمكن إلا أن تكون عناصر لاستراتيجية عنف متفق عليها مسبقا. ثم، وهو الأهم لا بد من فتح قنوات التواصل مع الهيئات الشرعية للمجتمع الدولى لكى تتابع بنفسها ما حدث وما سوف يحدث. هذا فى حد ذاته يعزز من شرعية النظام القائم.
لا يمكن الانكفاء على الذات ودعوة العالم الخارجى لأن يضرب رأسه فى الحيط. مصر متداخلة فى شبكة العلاقات الدولية، وهذا التداخل هو أفضل ضمان لها ضد انعزالها عن المجتمع الدولى وضد إخراجها على مبادئه وقيمه. الانكفاء على الذات هو هزيمة تنزلها بنفسها قوى 30 يونيو.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة