طوكر
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الخميس 18 أغسطس 2016 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
ما الذى يدفع عالما وأستاذا جليلا، تخصصه العلم الطبيعى، لأن يكتب أدبا وأن ينشره على الناس لأول مرة وقد تعدى الخمسين من عمره؟ لن يكون مفاجئا للقارئ أن يكون الرد على التساؤل متعدد العناصر. كم من الناس فى صباهم وشبابهم أودعوا أفكارا على الورق، كتبوا قصة قصيرة أو تأملوا فى علاقة أو حدث عرض لهم، ثم تلاشى القلم من بين أصابعهم؟ كم من شاب احتار بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والأدب وهو يختار دراسته الجامعية؟ الشاب الذى اختار العلم الطبيعى وتفوق فيه ربما استمر يقرأ أدبا ويتذكر أوراقه القديمة. بعد أن يحقق العالم ذاته، ربما تاقت نفسه إلى فترة صباه وعوضها عن اختياره الأول. ومع ذلك، فلا بد من عنصر حاسم يدفع ذلك العالم، المحتار فى مطلع شبابه، ذا التجربة الخجولة مع القلم والورق، إلى أن يجلس إلى حاسوبه بعد أكثر من ثلاثين عاما ليعوض نفسه ويكتب للناس هذه المرة وليس لها وحدها؟
***
ما يبدو أنه حسم قرار عمرو شعراوى، المهندس وأستاذ الفيزياء المرموق، هو أنه لم يرد فقط أن يكتب للناس، بل أراد أن يوصل لهم معانى محددة. باختصار، هذه المعانى تتعلق بتاريخ مصر المعاصر. وهو بث هذه المعانى فى رواية منحها «طوكر» كعنوان، أولا لأنها تنتهى بواقعة طوكر، وربما ثانيا، حتى يتساءل القراء عن «طوكر» هذه التى لا ينفكون يهابون أن «يروحوا فيها» دون أن تعرف أغلبيتهم الساحقة أو تتساءل ما هى وما السبب فى ضرورة تفاديها.
ومع ذلك فإن «طوكر» فى حد ذاتها ليست موضوع رواية عمرو شعراوى بل إن موضوعها هو طريق التطور الذى سلكته مصر منذ الثمانينيات من القرن التاسع عشر. المقدمات وبداية الرواية هى معركة التل الكبير والمأساة التى تنتهى إليها. أسلوب الكاتب أدبى تماما فلا تصريح مباشرا فيه ولكن الرسالة واضحة. الرجال شجعان فى الحرب ولكن القيادة فى فوضى. ليلة المعركة التى سيواجهون فيها الإمبراطورية الباغية، ليلة الاندحار، يقضيها الرجال فى حلقة ذكر كبيرة يطربون لموسيقاها. حاسمة إدانة الكاتب للخديو توفيق ومناصرته الحكم الدستورى ومساندته عرابى وإخوانه، وإن كان ذلك لا يمنعه من التعجب من إصرار الزعيم على أن يعيش المعركة فى أبهة الخيمة التى صنعت خصيصا للخديو اسماعيل إبان افتتاح قناة السويس.
الشخصية الرئيسية فى الرواية تحكى ما حدث فى رسائل تشغل أكثر من خمسمائة صفحة ولكنها تكتبها فيما يربو قليلا على السنتين بين يناير 1882 ومارس 1884. هى شخصية ضابط حارب فى التل الكبير ورفت من الجيش بعد الحرب بتهمة أنه كان عرابيا ولاحقته السلطة تريد سجنه كما سجنت رفاقا له. ولكن يبدو للقارئ أن البطل الحقيقى للرواية لم يظهر فيها إلا لماما وفى بدايتها. إنه شقيق الشخصية الرئيسية وهو ضابط أيضا كان من أنصار عرابى قبل أخيه ولكنه غير موقفه من رجل مظاهرة عابدين واختار لنفسه الابتعاد والمنفى فى السودان، فى «طوكر».
بطل الرواية اختفى ولم يلعب فى أحداثها دورا يذكر ولكنه مع ذلك بقى حاضرا فى تأملات الراوى. الغائب الحاضر لا يوافق عرابى على إقحام الجيش فى صراعه مع الخديو حتى وإن كان الحق معه فى هذا الصراع. هو يختفى مع اختفاء رأيه عن العلاقة بين الجيش والحكم.
على مستوى آخر فى الرواية، ينسج عمرو شعراوى قصة عن الحياة فى القاهرة فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر، يحكى عن حياة لهو وعن مقاومة للمحتل، عن جريمة ترتكب وعن حياة مموهة للشخصية الرئيسية، وهو إذ يجدِل هذه القصة، يكشف عن معرفة مدهشة بالقاهرة القديمة وثناياها وعاداتها، وبتلك التى بدأت عندئذ فى ارتداء ثوب الحداثة.
الرواية تتصاعد أحداثها حتى تصل إلى المأساة الثانية فى طوكر. على خلاف أغلب من ينسبون أنفسهم للوطنية المصرية، فإن الكاتب يتساءل عما يمنح المصريين الحق فى أن يسودوا السودانيين، وهم الذين يعانون من البريطانيين فى مصر. فى طوكر هزيمة جديدة أمام قوات المهدى هذه المرة، وفى طوكر أيضا تنصب حلقة ذكر عشية المعركة.
حداثة متأخرة ومريضة لا تقوى على مقاومة التقليد القديم هى السبب فيما حل بمصر لدى نهايات القرن التاسع عشر، وهى المسئولة عن تخلفها عن العصر حتى يومنا هذا.
***
للنقد الأدبى أهله. هذه «انطباعات» خرج بها قارئ للرواية. الانطباعات ستكون مختلفة فى طبيعتها أو درجتها عند قارئ آخر. ثراء العمل الأدبى بتعدد الانطباعات عنه وباختلاف مستوياتها.
لو كان الكاتب قد احتار فعلا فى مطلع شبابه أى نهج يسلك، فإن لغته تفيد أنه كان على حق فى حيرته. فى الصياغة مقاطع بديعة، فيها روح الشعر وإن اتخذت شكل النثر. وبناء الرواية متين، متماسك ومتكامل.
هذه رواية تستحق القراءة، والأمل هو ألا يتوقف الكاتب عندها. هو ليس هاويا بل هو أديب متمكن، يسيطر على البناء الأدبى ويتوسل بلغة جميلة فى مفرداتها وفى صياغاتها.