الحوار الوطني بشأن الحوار الوطني
محمد رءوف حامد
آخر تحديث:
الخميس 18 أغسطس 2022 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
تماما، وكما جاء فى طرح سابق (من القلق المجتمعى إلى الحوار الوطنى.. والعكس ــ الشروق 2 يوليو 2022)، الحاجة قصوى لحوار وطنى، ليس فقط بسبب تعملق الأزمة الاقتصادية، ولكن أيضا بالاعتبار لجملة الأسباب التى ساهمت فى نشوئها وفى زيادة الحساسية لمخاطرها.
أما الآن، مع الدخول إلى «عتبة» الحوار، تحتاج البلاد للتركيز على الإدراكات والممارسات التى تجعل منه آلية لتمكين الشعب المصرى من إحداث تحول مجتمعى كلى (متوازن وطويل المدى)، ينقل مصر إلى مدارها التقدمى «الذاتى» الذى تحتاجه.
فى هذا الإطار يجتهد الطرح الحالى فى الإشارة إلى العوامل التى تجعل من الحوار أداة مجتمعية ناضجة ومستديمة، وتحديدا: بنية الحوار، و«الدالة» الأعظم لنضجه، وحوار ما بعد الحوار.
أولا ــ فى بنية الحوار (وأبعاده المؤسسية)
أيا كانت تراوحات الرؤى، بشأن النوايا والجدية والممكنات، يكون من شأن وجود «حوار وطنى» بزوغ إمكانية لإحداث تحولات إيجابية فى مجريات أمور مصر.
فى ظل هذه الحقيقة «النسبية» يجدر الانتباه إلى ثلاثة متطلبات تتعلق ببنية الحوار.
يتمثل المتطلب الأول فى ضرورة تنشيط واستيعاب «الرؤى الفردية»، مهما بدا فيها من غرابة، إلى جانب التحاور الجماعى (داخل النقابات وجماعات العمل الأهلى، والصالونات الثقافية... إلخ)، مما يرفع من شأن الحوار وجماهيرية مرجعياته.
وأما المتطلب الثانى فيختص بضرورة التصنيف Classification للقضايا التى تخضع للمناقشات على أى مستوى، آخذين فى الاعتبار أنه مهما تباينت (وتفرعت) خرائط التصنيفات فإنها تكون غاية فى الإفادة لعمليات التقييم والمقارنة والتشبيك.
وعن المتطلب الثالث فيتعلق بالتوصيف Description الاستراتيجى للقضايا والملابسات التى تدخل نطاق الحوار. فى إجراء هذا التوصيف لابد من الانتباه للفروقات بين «الأحداث» Events، و«المسارات» Pathways، و«السياقات» Contexts، سواء فيما كان قد جرى، أو فيما يجرى، أو فيما يمكن أن يجرى. من خلال هذا الانتباه يرتقى الحوار ليكون بناءً معماريا وطنيا، متماسكا ومتناغما، مهما تنوعت أركانه بين السياسى والاقتصادى والثقافى والاجتماعى... إلخ.
من الناحية العملية، تكون مخرجات الحوار معيارا لصحة بنيته. من هنا تأتى أهمية تضمن المخرجات لممارسات تصحيحية ولمخططات مستقبلية. بدون ذلك لا يتحقق الغرض من الحوار، والذى سيكون ناقصا ومشوها. أما فى حالة التوصل إلى هكذا مخرجات فسيصبح الحوار قادرا على الولوج بمصر إلى «حلزونية التقدم».
عندها تكون البنية المؤسسية للحوار غاية فى الوضوح. وكنتيجة، ينجح الحوار فى إنجاز مهامه الكبرى كمخفف للصدمات Buffering بين جميع الكيانات الوطنية الرئيسية (تشريعية وقضائية وتنفيذية وأمنية... إلخ)، وكداعم لحركية المعرفة (وخاصة عمليات التنقيب والتقييم وإعادة التقييم).
يبقى، بعد ذلك، للحفاظ على صحة البنية المؤسسية للحوار، أن يتوصل المجتمع، بالتوافق، إلى ما يمكن تسميته بالممارسات السياسية السليمة، أو (GPPs) Good Political Practices إنها الممارسات التى يؤدى الإخلال بها (من قبل أية جهة فى الدولة) إلى «لخبطة» مصر، و«رجوعيتها» إلى الوراء، وتحميلها أعباء مستقبلية لا حاجة لها بها، الأمر الذى يستحق تناولا تفصيليا قائما بذاته.
باكتمال مأسسة الحوار وصحة بنيته يصبح «نعمة معرفية» وطنية كبرى. ومن أجل تعظيم إثمارات هذه النعمة يجدر تكرار التنويه إلى أهمية عمل توقف (Pause) لأية إجراءات بين الحكومة وكيانات أجنبية، مما قد تكون لها انعكاسات على وضعية الأزمة الاقتصادية.
ثانيا– فى «الدالة» الأعظم لنضج الحوار
الحوار الوطنى الحقيقى يمثل، بكل أبعاده، مجموعة متكاملة من «المنطلقات»، والتى بدورها تكون مولدة لـ «مخرجات» من المهام الجديدة Functions. العلاقة بين المنطلقات والمخرجات تصبح دالة على جدية الحوار وكفاءته. هذه العلاقة تقود للتوصل إلى الدالة الأعظم لنضج الحوار الوطنى، والتى يمكن أن تتمحور فى التالى:
1) خلق عزم وطنى National momentum لإحداث تصحيح منهجى متدرج للأوضاع، مهما كان الحرج ومهما كانت الصعوبات، وأيضا مهما احتوت هذه الأوضاع من خطوط جرى العرف على اعتبارها حمراء. فى هذا السياق، ربما ترتبط المجالات الأكثر حاجة للتفهم وللمعالجات الرشيدة بإشكالية مدنية الدولة، وبأوزان علاقة الاعتبارات والترتيبات الأمنية بمجريات الحياة اليومية.
2) التوصل، فيما يتعلق بالمشروع الوطنى للتقدم، إلى «مداخل» لاستراتيجيات خاصة بمصر. ذلك على غرار ما اتبعته الصين فى القفز التنموى (بهدوء) عبر نحو نصف قرن، وكذلك ما جرى فى كل من ماليزيا 2020 وبرازيل لولا دا سيلفا (2002 ــ 2011). بمعنى آخر، الوضع المصرى فى حاجة إلى مداخل استراتيجية يمكنها أن تصنع تقدما متسارعا (التقدم الأسى: إدارة العبور من التخلف إلى التقدم ــ كراسات مستقبلية ــ 1998).
3) استمرارية جميع أشكال الحوار فى كل وقت (وفى كل عهد) فى شتى مجريات أمور الوطن، بين رجال الفكر والمعرفة والسياسة من جانب، والمسئولين الرسميين فى الدولة من جانب آخر.
ثالثا ــ حوار ما بعد الحوار (أو عملقة الاستنهاض)
فى مقابل ما كان قد جرى من عملقة للمشكلات فى غياب الحوار (كمشكلات الديون وأولويات التنمية)، يكون من شأن الحوار الناضج أن يقود إلى «عملقة الاستنهاض». يأتى ذلك من خلال الاتجاه فى مسار ما بعد الحوار إلى:
ــ إصدار بيان عن الحوار، يكون موجها لعموم المواطنين والمواطنات، متضمنا لكل قضايا الحوار وما يكون قد نشأ عنه من تنويهات، وتوصيات، والتزامات.
ــ جعل الحوار الوطنى آلية قومية مستدامة، وبحيث يتحول المجتمع المصرى تدريجيا فى جميع ممارساته (السياسية والاجتماعية.. إلخ) إلى ثقافة الحوار (المولدة لقوة الفكر) كبديل عن أية ممارسات قمعية تنجم بطبيعتها عن «فكر القوة والنفوذ».
ــ الاستهداف المستمر للمصالحة مع الذات الوطنية، ممثلة فى حماية (ووطننة) المؤسسات والكيانات الإنتاجية والخدمية.
ــ الاعتماد على المعرفة العلمية فى إدارة الدولة، خاصة مجابهة أية إشكاليات حرجة، على غرار التغلغل لخلفيات ولمعاملات أمنية الشكل فى الأنشطة الحياتية اليومية.
ختاما، يجدر الانتباه إلى أن مستقبليات الوطن تنتظر التشبيك العاجل بين المعرفة النظرية والممارسات التطبيقية، حيث فى غير ذلك يُستفحل الانتشار والتعميق لدوامات الهبوط والغرق فى جميع مجالات الحياة.