عن حقائق القوة التى تفرض نفسها على الشرق الأوسط
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 18 أغسطس 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
ومثلما كان الشرق الأوسط من قبل منطقة لصياغة علاقات القوة بين الدول والكيانات الكبرى الفاعلة فى المنظومة العالمية، ها هى المنطقة التى نشكل نحن العرب أغلبية سكانها تعود لتلعب ذات الدور فى سياق التحول التدريجى من الهيمنة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية إلى التنازع حول الهيمنة بين أقطاب متعددة.
لا تقتصر علاقات القوة الجديدة التى تصاغ اليوم على أرض الشرق الأوسط، وفيما وراء المنطقة الممتدة بين المغرب وإيران عرضا وبين تركيا والسودان طولا، على المنافسة المتصاعدة اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا وأمنيا وجيو ــ سياسيا بين الولايات المتحدة والصين، بل تتجاوزها باتجاه توسيع دول وكيانات كبرى كروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبى لمساحات فعلهم ونفوذهم وكذلك باتجاه بروز تحالفات بينهم وبين الدول الإقليمية المؤثرة لم تكن حاضرة من قبل.
• • •
من جهة أولى، انحسرت مواقع وتراجعت فاعلية السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط، إلا أن الولايات المتحدة لم تفقد كل نفوذها وتظل القوة الكبرى الأكثر تواجدا وتدخلا عسكريا فى المنطقة والأكثر قدرة على تقديم ضمانات أمنية لدول عديدة فيها. يتمثل التحدى الحقيقى الذى يواجهه صناع السياسة الخارجية فى البيت الأبيض والكونجرس فى تقبل النهاية الحتمية لحقبة الهيمنة المنفردة التى بدأت فى تسعينيات القرن العشرين (بعد سقوط الاتحاد السوفييتى السابق) والانفتاح على قراءة هادئة لتعددية الأقطاب فى الشرق الأوسط لا تختزلها فى تهديدات للمصالح الأمريكية وانتقاصات محتملة منها، بل تبحث فى سياقاتها عن فرص الحد من استنزاف القدرات العسكرية والأمنية والاقتصادية للعملاق الغربى فى رمال منطقتنا (كارثة غزو العراق نموذجا) وعن إمكانيات التنسيق والتعاون الاستراتيجى والتكتيكى مع بعض الدول والكيانات الكبرى الأخرى لضمان المصالح المشتركة، خاصة إمدادات النفط والتبادل التجارى، وحل الصراعات ودعم الاستقرار والسلم الإقليميين.
من جهة ثانية، تتسع أدوار الصين فى الشرق الأوسط لتتخطى بالتدريج التركيز الأحادى على النفط والتجارة والتعاون الاقتصادى باتجاه أنشطة دبلوماسية وضمانات أمنية تستهدف معا خفض مناسيب الصراع وعدم ترك قضايا المنطقة جيو ــ سياسيا للولايات المتحدة بمفردها. ومن الوساطة بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات واحترام السيادة والالتزام بعدم التدخل، مرورا بالإعلان عن انضمام السعودية «كشريك فى الحوار» أو مراقب إلى منظمة شنغهاى للتعاون التى تقودها الصين مع روسيا والهند وتشارك فيها مصر وإيران وقطر كمراقبين، إلى الإعلان عن استعداد مجموعة بريكس التى تقودها أيضا الصين مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إتمام بعض تعاملاتها التجارية مع دول شرق أوسطية كمصر وقروضها الموجهة للتنمية باستخدام عملات غير الدولار الأمريكى؛ تدلل الصين بقوة على تنامى حضورها فى منطقتنا كجزء من تعاظم دورها العالمى وعلى فاعلية سياساتها.
وسيكون من الخطأ قراءة الدور الصينى الجديد فى الشرق الأوسط باختزاله فى منافسة الولايات المتحدة وحسب. فالتعاون مع واشنطن بما يضمن المصالح المشتركة للقطبين يظل الوجه الآخر لسياسات وممارسات بكين التى لا ترغب فى أن تواجه العملاق الغربى اليوم. وبين الكثير من المنافسة والكثير من التعاون لضمان أمن النفط وخطوط التجارة، تريد الصين تثبيت أقدامها فى منطقتنا كعملاق يستطيع أن يقدم لدولها علاقات اقتصادية وتجارية متطورة وتعاونا تكنولوجيا وأمنيا ودعما دبلوماسيا لا يقل فى شموليته عما اعتادت الولايات المتحدة تقديمه.
تريد الصين، إذا، أيضا التدليل على أن أدوارها التى تتسع تدريجيا وسياساتها التى تزداد فاعليتها لا تتعارض مع استمرار العلاقات الوثيقة لعديد دول الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة (العمل على تجنب المعادلات الصفرية) وعلى أن دولنا لا تحتاج للاختيار بين عملاق من العملاقين. تريد الصين كذلك ولكى تتجنب استنزاف الرمال الشرق أوسطية لقدراتها، أن تحضر فى المنطقة مصحوبة بدول كبرى أخرى تنسق معها على مستويات أكثر عمقا من التعاون الصينى ــ الأمريكى. وهنا مغزى انضمام عدة دول كمصر وإيران والسعودية وقطر إلى منظمة شنغهاى للتعاون ومغزى إعلان مجموعة بريكس عن قبول التعامل تجاريا وتنمويا بغير الدولار الأمريكى مع الشرق الأوسط. ففى التحالفين الدوليين، تنضوى قوى عالمية كبرى كروسيا والهند والبرازيل وقوى إقليمية مؤثرة (القوى الوسيطة) كباكستان وكازاخستان وجنوب أفريقيا وغيرها.
• • •
من جهة ثالثة، فى مواجهة خيارات الولايات المتحدة وخيارات الصين الاستراتيجية فيما خص الشرق الأوسط، تبدو خيارات الاتحاد الأوروبى أقل بكثير.
فالاتحاد الأوروبى، دون نسيان اتجاهه اليوم إلى الصراع مع روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية وتصعيده للمقولات الصراعية والتنافسية إزاء الصين اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا، لم يعد يملك العديد من الأوراق السياسية الفعالة فى منطقتنا. لا تقدم الدول الأوروبية ضمانات أمنية، ولا تحضر سياسيا سوى فى خانات محدودة، ولا تستحوذ اقتصاديا وتجاريا على مرتبة الشريك الأول إلا مع أقلية من دول الشرق الأوسط. لم يعد للاتحاد الأوروبى الأوراق التفاوضية التى كانت له تجاه إيران أو فيما خص القضية الفلسطينية، ولم يعد له وجود فى ساحات الصراع سوى على الهامش فى اليمن وفى تحالف مع قوى عالمية وإقليمية فى ليبيا، وبعيدا عن شمال أفريقيا تنحسر تجارته، صادرات وواردات، مع منطقتنا.
لذا، ينحو الاتحاد الأوروبى بصورة متزايدة إلى التنسيق الاستراتيجى الشامل مع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط التى تتقدم المعسكر الغربى كالقوة الأكبر التى ترغب فى البقاء وتأتى حاملة بجانب قدراتها العسكرية وضماناتها الأمنية وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية ما تقدمه الدول الأوروبية من قليل التعاون الاقتصادى والتبادل التجارى والتكنولوجى وقليل صادرات السلاح.
من جهة رابعة، تقدم روسيا نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكرى والأمنى والاقتصادى والتجارى مع جميع حكومات المنطقة دون أن تخير الشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية. تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هى سلاحها دون شروط. وظف صناع القرار فى الرئاسة الروسية وفى الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التى صنعتها تقلبات السياسة الأمريكية فيما خص أمن الشرق الأوسط، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكرى والأمنى المباشر للدفاع عن حلفائها (سوريا مثالا) وتستطيع أيضا التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة فى المنطقة (ليبيا مثالا) ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها كما تفعل مع إيران وتركيا فيما يتعلق بسوريا ومع مصر والإمارات وتركيا وفرنسا فيما خص ليبيا.
• • •
من جهة خامسة، تتحرك الأطراف الإقليمية غير العربية والمتمثلة فى تركيا وإيران وإسرائيل بكفاءة لتعظيم مصالحها والدفاع عن أمنها القومى. فتركيا تعمل على تطوير الشراكة الاقتصادية والتجارية مع الجوار العربى ومع إيران وإسرائيل لكى تتحول إلى قوة إقليمية كبرى وتبتعد تدريجيا عن صراعات ما بعد انتفاضات الربيع العربى ٢٠١١ التى كلفتها علاقاتها الجيدة مع دول عربية كالسعودية ومصر والإمارات. وإيران تواصل البحث عن هيمنة ونفوذ ومواطئ قدم فى الجوار العربى لكى تبعد عنها شبح عودة الحصار الإقليمى والعالمى الذى أعقب ثورتها فى ١٩٧٩، وهى فى ذلك لا تمانع فى العمل الإجرامى على تفتيت بعض الدول الوطنية كما فى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإلى خلق حالة من عدم الاستقرار وغياب الأمن والصراع والانقسام ترهق العرب جميعا. تتحرك إيران شرق أوسطيا، وبوصلتها الاستراتيجية ترى قبل أى شىء آخر العداء مع واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية. يساوم حكام إيران بحروب لبنان وسوريا والعراق واليمن فى مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن برنامجهم النووى. ويساومون أيضا بغياب الاستقرار والأمن فى الجوار العربى لتثبيت وجودهم كقوة إقليمية يستحيل تجاهلها.
أما إسرائيل، فلها سياسة خارجية نشطة فى الشرق الأوسط، أهدافها الاستراتيجية هى مواجهة إيران وحلفائها ووكلائها، وتعزيز التعاون الأمنى والتكنولوجى والاقتصادى والتجارى مع الدول العربية التى تربطها بها علاقات دبلوماسية، والانفتاح على العرب الرافضين للتطبيع معها أو المتحفظين عليه إلى اليوم، واستعادة العلاقات الجيدة مع تركيا بعد الهزات العنيفة التى تعرضت لها خلال السنوات الماضية.
ليس من بين أهداف السياسة الإسرائيلية تجاه الشرق الأوسط التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وفقا لمبدأ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فى القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة. بل الثابت هو أن إسرائيل تعمل على الإبقاء على الأوضاع الراهنة فى الأراضى الفلسطينية التى يتواصل إن تفتيتها فى القدس والضفة من خلال النشاط الاستيطانى أو حصارها العسكرى والاقتصادى والتجارى فى غزة. وفى سبيل التنصل من حل الدولتين، لا تمانع السياسة الإسرائيلية فى مواصلة التورط تجاه الشعب الفلسطينى فى ممارسات لا يمكن توصيفها سوى بكونها سياسات للفصل العنصرى.