الصهيونى.. بايدن

يحيى عبدالله
يحيى عبدالله

آخر تحديث: الأحد 18 أغسطس 2024 - 5:55 م بتوقيت القاهرة

كُتب الكثير عن «الصهيونية المسيحية» أو «المسيحية الصهيونية»: عن نشأتها فى إنجلترا، فى القرن السابع عشر، بين أوساط المؤمنين البروتستانت، وعن جوهر الفكرة الحاكمة لها، التى تتلخص فى الإيمان بضرورة عودة يهود العالم إلى أرض فلسطين (أرض إسرائيل)، وإقامة دولة لليهود بها، وإعادة بناء (الهيكل) بوصف ذلك جزءًا حتميا من عملية الخلاص المسيحى. وكُتب الكثير، أيضا، عن إيمان كثير من الساسة  والأدباء الأوروبيين بهذه الرؤية اللاهوتية، وعن سعيهم الدءوب من أجل وضعها موضع التنفيذ، وعن انتقالها إلى أمريكا عبر المهاجرين الأوروبيين إليها، وعن الحضور المؤثر لها بين أتباع المذهب الأنجليكانى، وعن إيمان كثير من الساسة والرؤساء الأمريكيين بها.

 لذا، لم يكن مستغربا أن يجاهر الرئيس الأمريكى، الحالى، بالقول بأنه صهيونى: «لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان كل يهود العالم فى خطر. لذا ثمة ضرورة لأن تكون قوية، لأن يكون هناك مكانٌ آمن لليهود. ليس بالضرورة أن تكون يهوديا لكى تكون صهيونيا». هكذا قال، بايدن، فى حديث أجرته معه شبكة «كومبلكس». سُئل بايدن، خلال الحديث، هل أنت صهيونى؟ فأجاب بالإيجاب. أكّد بايدن هذه الصفة، مرة أخرى، حين زار إسرائيل، قبل السابع من أكتوبر 2024م بأكثر من عام قليلا، على مسامع رئيس الحكومة، فى حينه، يائير لابيد. من هنا، ليس بمستغرب أن تسود معظم الكتابات الصحفية الإسرائيلية، مع استثناءات طفيفة، نغمة حزينة، بعد إعلانه انسحابه، يوم الأحد، الموافق 21 من شهر يوليو لعام 2024م، من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة المزمع إجراؤها فى نوفمبر القادم. أجمع كثير من الكتاب الإسرائيليين على أن بايدن ربما يكون آخر رئيس أمريكى يجاهر بصهيونيته، ومنهم، بن درور يمينى، الذى يقول: «كان بايدن ولا يزال صديقا حقيقيا لإسرائيل. ربما آخر رئيس يعلن بالفم الملآن أنه صهيونى، خاصة فى عصر تعد فيه كلمة «صهيونى» وصفا مستهجنا ينأى عنه من يريد الحفاظ على نفسه، فكم بالأحرى الدوائر التقدمية والديمقراطية (الأمريكية). لذا يستحق تقديرا من جانب كل وطنى صهيونى وإسرائيلى».

الأمر نفسه ذهب إليه، ناحوم برنياع: «ربما يكون جو بايدن آخر الرؤساء الصهاينة فى البيت الأبيض»؛ ورون بن يشاى: «يقال عن الرئيس الأمريكى، جو بايدن، إنه كان آخر الرؤساء الصهيونيين. إذا نظرنا إلى فترة ولايته الرئاسية من زاوية الأمن القومى والمادى لمواطنى دولة إسرائيل فإنه يستحق هذا اللقب عن جدارة. إذ لم يَهُب أى رئيس أمريكى لنجدة إسرائيل، معنويا وعسكريا وعمليا، مثلما فعل جو بايدن بعد يوم السابع من أكتوبر اللعين».  بل إن إفرايم جانور يرى أن مغادرة بايدن للبيت الأبيض وانتهاء مشواره السياسى يؤرخ لـ«عصر جديد فى علاقات إسرائيل وأمريكا، وسبب كاف جدا للحزن على آخر رئيس صهيونى».

•  •  •

قدم بايدن لإسرائيل، انطلاقا من إيمانه بالصهيونية، ما لم يقدمه أى رئيس أمريكى سابق لها. فقد زارها بُعيْد اندلاع الحرب مباشرة، فى سابقة هى الأولى من نوعها، وشد من أزر المسئولين بها، ووجه تحذيرا شديد اللهجة إلى الأطراف التى قد تفكر فى انتهاز الفرصة من أجل توسيع دائرة الحرب، مفاده أن إسرائيل ليست وحدها، قائلاً: «دعونى أقول مرة أخرى، إن لدى كلمة واحدة فقط لكل دولة، ولكل تنظيم، ولكل من يفكر فى استغلال هذا الوضع، هى: DON’T». لم يكتف بايدن بتقديم الدعم المعنوى فحسب، وإنما أرسل بعد بضعة أيام فقط أكبر حاملتى طائرات بالأسطول الأمريكى ـ «فورد» و«آيزنهاور» ـ إلى المنطقة، فى تحذير واضح لإيران ولحزب الله فى لبنان. اهتم بايدن، أيضا، بتدبير دعم مالى أمريكى كبير للمجهود الحربى الإسرائيلى مقداره نحو 14 مليار دولار، وبإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من الأسلحة والذخيرة، حتى إن كبير المعلقين السياسيين بالقناة الثانية عشرة بالتليفزيون الإسرائيلى، أمنون أبراموفيتش، كرر، غير مرة، قوله: «لولا دعم إدارة بايدن لكنا نحارب الآن بالعصى والطوب».

بدأت العلاقة الحميمة من جانب بايدن تجاه إسرائيل، بحسب إفرايم جانور، قبل 50 عاما، عندما كان عضوا بمجلس الشيوخ الأمريكى عن ولاية دلاور، حيث عبَّر، فى ذلك الوقت، عن «حبه وقلقه على دولة إسرائيل فى لقائه مع رئيسة الحكومة الإسرائيلية، فى حينه، جولدا ميئير، واهتم وسعى طوال كل سنوات نشاطه السياسى كرئيس للجنة الخارجية بمجلس الشيوخ، وكنائب للرئيس الأمريكى لمساعدة دولة إسرائيل». لم يولد بايدن صهيونيا بالفطرة، وإنما أسهمت عوامل مختلفة فى جعله صهيونيا، منها ما هو تاريخى، ومنها ما هو دينى، ومنها ما هو ثقافى، ومنها ما هو اجتماعى، ومنها ما هو استعمارى ـ استشراقى.

من العوامل التاريخية التى أسهمت فى جعله صهيونيا، أنه بلغ مرحلة النضج والوعى فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإقامة دولة إسرائيل، وهى مرحلة اعتملت بها مشاعر متضاربة لدى الشعب الأمريكى، بحسب نير كيبنيس: «الفخر لكون أمريكا هى التى حررت العالم من نير النازية من جانب، والشعور بالذنب تجاه اليهود من جانب ثان»، بسبب عدم سماح السلطات الأمريكية لبعض السفن التى تحمل اليهود الفارين من ألمانيا النازية الدخول إلى موانئها.

ومن العوامل الثقافية، التى أسهمت فى جعله صهيونيا، أنه تغذى، فكريا، على الملاحم الهوليودية الكبرى فى الخمسينيات والستينيات التى اعتمدت على القصص التوراتية مثل فيلم: «الوصايا العشر»، وعلى الأفلام التى مجَّدت المشروع الصهيونى، مثل فيلم «إكسودوس»، و«ألقى ظلا ضخما»، وهى أفلام شارك فى بطولتها نجوم لهم بريق وتأثير من أمثال: بول نويمان، وكيرك دوجلاس، وجريجورى بك، وفرانك سيناترا.

ومن العوامل الدينية، أنه كان يؤمن، بحسب، دان برى، بـ «الجذور المشتركة للتراث اليهودى ـ النصرانى»، وبما يسمَّى بـ«الحق التاريخى لليهود فى الأرض المقدسة». ومن العوامل الاجتماعية ـ السياسية أن بايدن كان محاطا بداخل حزبه الديمقراطى، بحسب نير كيبنيس، «بزملاء من أصل يهودى»، مشيرا إلى أنه كان هناك «تطابق شبه تام فى تلك السنوات بين المصطلحين: «يهودى أمريكى» و«ديمقراطى». ومن العوامل الاستعمارية ـ الاستشراقية أنه كان يؤمن بأن إسرائيل، بحسب دان برى، «قوة رائدة للحضارة الغربية» فى المنطقة العربية.

•  •  •

على الرغم من كل ما قدمه بايدن لإسرائيل فإن بعض الدوائر الإسرائيلية، اليمينية، احتفلت بإعلانه الانسحاب من السباق الانتخابى، حيث وزَّع المشاركون فى برنامج «الوطنيون»، الذى يقدمه المذيع اليمينى المتعصب، يانون مجال، بالقناة الرابعة عشرة، البقلاوة ابتهاجا بالمناسبة، وأدلى وزير «الشتات»، العضو بحزب الليكود، عميحاى شيكلى، بتصريحات بها استخفاف ببايدن. ذلك، أن هذه الدوائر ترى أن كل من لا يصطف مع ما تؤمن به من قبيل إبادة الشعب الفلسطينى، وضم الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية والقدس الشرقية، وإعادة احتلال غزة وإقامة مستوطنات بها، عدوٌ لإسرائيل حتى وإن كان صهيونيا حتى النخاع مثل جو بايدن.

ثمة ملاحظات من جانب دوائر غير يمينية على سلوك بايدن خلال الحرب، أدخلته فى صدام مع حكومة بنيامين نتنياهو منها، أنه خضع، بحسب، رون بن يشاى، «لضغط الجناح الليبرالى بداخل حزبه، المعروف باسم الـ«سكواد» المناصر للشعب الفلسطينى، وطلب من إسرائيل ألاّ تشعل حربا إقليمية، وفرض عليها كيف تدير الحرب طبقا لرؤية جنرالاتها». الآن، وقد باتت أيام الصهيونى، بايدن، معدودة فى البيت الأبيض ـ حتى آخر يناير 2025م ـ فإن التفكير السائد فى إسرائيل يتركز حول كيفية اعتصاره حتى آخر قطرة، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من وجوده فى سدة الحكم. إذ يرى رون بن يشاى، أن وجوده فى الحكم حتى نهاية يناير القادم «فرصة لتحسين فرص إنهاء حرب «السيوف الحديدية» ـ المسمّى الإسرائيلى لحرب «طوفان الأقصى ـ بإنجازات مهمة، وتحسين وضعنا الأمنى القومى لسنوات طويلة قادمة». يتفق رون بن يشاى مع من يقولون بأن بايدن صار «بطة عرجاء» من الناحية السياسية ومن ناحية قدرته على التأثير فى الساحة الدولية، عامة، وفى الشرق الأوسط، خاصة، لكنه يرى أنه صار «متحررا الآن، بالقدر نفسه، من هول الجناح التقدمى «المجنون» بداخل حزبه، ومن ثم بوسعه أن يتخذ قرارات تتسق مع رؤاه الشخصية وليس بتأثير من مستشاريه».

من بين الفرص، التى يرى، رون بن يشاى، أن على إسرائيل اغتنامها، فى ظل وجود بايدن فى سدة الحكم، التوصل إلى تفاهمات معه فى كل المجالات الإدارية، والعسكرية، والعملياتية، والسياسية بحيث يكون من الصعب على أى رئيس قادم تجاهلها، سواء أكان جمهوريا أم ديمقراطيا، وإعادة تخطيط العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا، والتوافق على مخطط استراتيجى مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة الحرب على كل الجبهات، والطلب من بايدن التصدى للعقوبات التى تفرض على إسرائيل، بما فى ذلك أوامر الاعتقال التى قد تصدر من المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو ومسئولين إسرائيليين آخرين. قد يكون بايدن آخر رئيس أمريكى صهيونى، لكن ما يحكم العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فى الأساس، هو المصالح الاستراتيجية المشتركة، وليس الهوى الصهيونى وحده.  

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved