حربهم علينا من بوش إلى أوباما
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 18 سبتمبر 2010 - 11:04 ص
بتوقيت القاهرة
إن استيعاب المشهد العالمى فى أعقاب 11 سبتمبر 2001 يقتضى أن نتأمل البدائل التى كانت متاحة لأبطال المشهد وكيف تعاملوا معه. فهناك أولا تنظيم القاعدة الراديكالى الذى تصرف بدهاء جعل من ضعفهم مصدرا للقوة وابتكروا من التخطيط والتدمير ما لم يكن للعقلية الأمريكية القدرة على استيعابه وبالتالى وقعت أمريكا فى الفخ: فخ التخبط والخلط بين الأمانى والحقائق. ف«بن لادن» ورفاقه كانوا أقرب إلى مجموعة من النمل التى دخلت فى أذن الفيل الضخم لتفقده صوابه واتزانه فيتحرك بعشوائية قد تفضى إلى هلاكه أو على الأقل إلى استنزاف موارده سواء بدخوله فى علاقات صراعية مع حلفائه أو بالسعى الأهوج للانتقام لكبريائه.
وتبدو ملامح نجاح الخطة حين نتذكر أن تكلفة حرب العراق المفترضة وفقا لوزير الدفاع السابق (دونالد رامسفيلد) كانت نحو 50 مليار دولار، وها هى الآن تصل إلى قرابة التريليون مع ملاحظة أن الحرب لم تنته بعد. كما أن بن لادن ورفاقه كانوا يريدون ساحة مفتوحة يجرون إليها الجيش الأمريكى حتى يمكن اصطياد أفراده. ولن يكون هناك أفضل من أفغانستان: الأرض التى يعرفها رجال القاعدة ومؤيدوهم ويجهلها الأمريكان.
فللقاعدة خبرة جيدة فى صراعهم ضد الإمبراطورية السوفييتية التى ما لبثت أن انحصرت ثم انهارت. وهو مصير يرجونه للإمبراطورية الأمريكية بجرها إلى ساحة لا تعرفها ولا تقدر حجم مخاطرها. إذن الرهان فى هذا المشهد على سوء تقدير الأمريكان لمصادر التهديد وتكلفة مواجهته. وقد كانت إدارة بوش وفريق المحافظين الجدد هم الطرف الآخر من عملية صنع القرار، فوقعوا فى عدد من الأخطاء الاستراتيجية التى حولت العمل الإرهابى المرفوض إلى سلسلة من ردود الأفعال الأمريكية المرفوضة كذلك داخل الولايات المتحدة وآخرها، وعلى رأسها أخطاء ما كان ليقع فيها مخططون استراتيجيون لهم باع طويل فى إدارة الصراعات الدولية. ومن هذه الأخطاء، تبنى الإدارة الأمريكية لاستراتيجية مشابهة لفكرة الفسطاطين التى قال بها بن لادن والظواهرى على نحو «من لم يكن معنا، فهو ضدنا». فوجد الكثيرون من الذين كانوا متعاطفين مع الولايات المتحدة أنفسهم فى خانة الرفض لردود أفعالها، وبالتالى تحولوا إلى أعداء ضمنيين لها وفقا لسياسات بوش، وكأنه وحّد أعداءه ضده، وبدلا من أن تكون القاعدة وأنصارها نبتا متطرفا لابد من استئصاله بمهارة ودقة، أصبحت الحرب على الإرهاب موجهة ضد مجتمعات بأكملها دون تمييز كاف.
ثانيا: كانت أجندة الحرية التى تبنتها إدارة بوش صراحة فى عام 2005 على أساس أن «أشجار الإرهاب تنبت فى غابات الاستبداد» كما كان يقال آنذاك كانت أجندة متناقضة مع ذاتها وهادمة للأهداف المعلنة منها. فعند الحديث عن أن غزو العراق سيكون مقدمة لتحول ديمقراطى يكتسح المنطقة، كانت المثالية الساذجة سيدة الموقف. فهل سينتظر الإيرانيون أو السوريون أو غيرهم حتى تنجح الولايات المتحدة فى عزل صدام وبناء نظام ديمقراطى متكامل ثم توجه الولايات المتحدة آلاتها العسكرية لإيران أو سوريا؟ الإجابة قطعا بالنفى، فكانت هناك مصلحة مباشرة للدول المحيطة بالعراق فى أن يتعثر الاحتلال وألا يكون العراق نموذجا للاستقرار والديمقراطية كما كانت تدعى الولايات المتحدة.
ثالثا: بدا واضحا أن الإدارة الأمريكية خلطت خلطا معيبا بين الأمانى والحقائق، فلا العراق ولا أفغانستان يمثلان البنية الاجتماعية والثقافية لإعادة إنتاج النموذجين الألمانى واليابانى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. والشواهد كثيرة لكن الإدارة الأمريكية آنذاك لم تكن مستعدة للاستماع إلا لمنظرى اليمين المحافظ. فاليابان وألمانيا كانتا دولتين قوميتين (nation-states) قبل الغزو الأمريكى بقرون. أما العراق وأفغانستان فهما دولتان مستقرتان بقدر استقرار قواعد الحكم الاستبدادى على قمة هرم السلطة. فسلطة القائد، وشرعية نظام الحكم، ووحدة الدولة كلها شديدة التداخل بحيث أن المساس بشخص صدام حسين كان يحمل ضمنا انهيارا لقدرة الحزب الحاكم (البعث) على الدفاع عن الدولة، بما يعنى أن تصبح وحدة الدولة وسيادتها موضع تساؤل. وهو ما كان عليه الحال فى العراق وأفغانستان، بل وفى معظم دول الجنوب التى استقلت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. وعليه فالمشروع الطموح لوطن قومى مستقر وديمقراطى حليف للولايات المتحدة فى العراق وأفغانستان أصبح أبعد كثيرا من الطموحات لأن الطموحات نفسها كانت أبعد كثيرا من تحديات الواقع.
ولكن خطة بن لادن ورفاقه واجهت تحديا هيكليا بوصول أوباما إلى السلطة، وهى واحدة من فضائل الديمقراطية التى تجعل للدول قدرة على تجديد الدماء وتصحيح الأخطاء. فقطعا الرئيس الجديد لا يريد أن يتحمل خطايا سابقه، ولا يريد أن يستمر فى سياسات يعلم أنها غير مجدية ولها تكلفة باهظة فى ظل اقتصاد هو أصلا يعانى صعابا استثنائية. ومن هنا اتخذت إدارة أوباما عدة قرارات مهمة تسهم ابتداء فى تصحيح الكثير من خطايا سابقه. فأولا إعادة الاعتبار للصراع العربى الإسرائيلى والاهتمام به فى السنة الأولى من حكمه، عكس ما فعل معظم الرؤساء السابقين عليه من معالجة الأمر وهم يودعون البيت الأبيض إن اهتموا به أصلا. وهذا اختيار موفق من جانبه، لأن محنة الفلسطينيين هى أهم أسباب تدهور شعبية الولايات المتحدة بين المسلمين وفقا للعديد من استطلاعات الرأى ودراسات الثقافة السياسية.
ثانيا، اختزل قضية التحول الديمقراطى فى موضوع احترام حقوق الإنسان الأساسية دون المزايدة فى هذا الأمر، ولا أتصور أن أوباما وفريقه فعلوا ذلك لأن قضية الديمقراطية لا تعنيهم، ولكن لأن منهج أوباما البراجماتى يتطلب منه التعاون مع نظم مستقرة، حتى وإن كانت غير ديمقراطية، من أجل مواجهة ما تراه الولايات المتحدة إرهابا، ومن أجل حل الصراع العربى الإسرائيلى. وخبرة العراق توضح أن الدول المستقرة (حتى وإن لم تكن صديقة للولايات المتحدة ولكنها محتواة contained مثل سوريا) تكون أقل تهديدا للولايات المتحدة من الدول الصديقة غير المستقرة (مثل أفغانستان والعراق) كما أنها تكون أكثر قدرة على تقديم تنازلات من أجل تسوية صراعاتها الإقليمية.
ثالثا، تغيير الخطاب الدبلوماسى واستخدام قوة الرمز فى خطابيه الشهيرين فى أنقرة والقاهرة، ومن قبلهما فى خطاب تسلمه للحكم حين أكد أن الولايات المتحدة ليست فى حرب مع الإسلام وإنما هى فى حرب مع مجموعة ممن أساءوا للإسلام وأرهبوا العالم باسمه. وهذا التغير فى خطاب أوباما ليس الهدف منه فقط تغيير الألفاظ (مثل التوقف عن استخدام لفظة الحرب على الإرهاب)، وإنما كذلك إحداث خلخلة وانقسام بين أعداء الولايات المتحدة، فبدلا من أن تكون الحرب ضد كل المسلمين، أو كل الإسلاميين، تتحول إلى حرب ضد من يحارب الولايات المتحدة من القاعدة ومن يؤيدهم صراحة ويمدهم بالسلاح والمال. ومن هنا كانت هناك عروض أمريكية على طالبان للتفاوض ونزع السلاح حتى تتفرغ القوات الأمريكية لحربها ضد القاعدة منفردة وليس ضد أغلبية الشعب الأفغانى. ورغما عن أن طالبان رفضت العرض الأمريكى مثلما رفضت إيران لاحقا، إلا أن إدارة أوباما سجلت موقفا دبلوماسيا ودعائيا تثبت فيه أنها الراغبة فى السلام ومضطرة للحرب، عكس إدارة بوش التى أثبتت للعالم أنها كانت راغبة فى الحرب ورافضة للسلام.
بهذه السياسات وما ارتبط بها من مبادرات عديدة، نجحت إدارة أوباما، لحد بعيد، فى أن تعيد الخلافات الإسلامية الأمريكية إلى خانة السياسة ومصالحها التى تتصالح أو تتصارع أكثر منها خانة الصراعات الدينية التى يسيطر فيها خطاب إعلاء الذات ورفض الآخر. وهو تطور مهم بل ودعم للبراجماتيين من الطرفين اللذين يبحثان عن مساحة مشتركة لعلاج مشاكل منطقة شديدة التعقيد والتداخل.