آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر (الحلقة الثالثة)
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 18 سبتمبر 2019 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
هل كانت أزمة مارس ربيعا ديمقراطيا مجهضا؟
لم تنشأ ذرائع الديمقراطية فى إدارة صراع السلطة إلا بعد أن جرى تهميش اللواء نجيب والشروع فى عزله
كان تشرشل يتابع باهتمام ما.. ويسأل عن إحياء الخطة «روديو» التى وضعت قواتها تحت التأهب والاستعداد للتدخل باحتلال الدلتا وصولًا إلى القاهرة
كان إعدام خميس والبقرى حكمًا جائرًا وافق على تنفيذه مجلس قيادة الثورة.. واعترض عليه خالد محيى الدين ويوسف صديق وجمال عبدالناصر
فيما خرج خالد محيى الدين بعد أزمة مارس مبعدًا إلى سويسرا تعرَّض يوسف صديق لمحن إنسانية إبعادًا واعتقالًا ووضعًا قيد الإقامة الجبرية
لم يكن اللواء نجيب الاسم الوحيد الذى فكر فيه ثوار يوليو ليكون واجهتها فقد جرى التفكير فى قائد عسكرى آخر من قيادات حرب وهو اللواء فؤاد صادق
إلى أى حد يتحمل «جمال عبدالناصر» مسئولية ما أفضت إليه الحوادث على مدى عقود طويلة من تهميش للتنوع السياسى واستئثار بالسلطة؟
قيل إن أزمة مارس (1954) فرصة للديمقراطية أُجهضت.
لم يكن ذلك التوصيف صحيحًا ولا دقيقًا بالنظر إلى سياق وظروف وطبيعة الأزمة، التى تكاد تتلخص أساسًا وقبل أى شيء فى صراعات السلطة.
كان إعدام العاملين «خميس» و«البقرى» يوم (١٣) أغسطس (١٩٥٢) إثر احتجاجات لحقتها اضطرابات فى مصانع «كفر الدوار»، حكمًا جائرًا وافق على تنفيذه مجلس قيادة الثورة، فيما اعترض ثلاثة عليه ــ والتحديد هنا ضرورى: «خالد محيى الدين و«يوسف صديق» و«جمال عبدالناصر».
الأولان ينتميان تاريخيًا إلى «حدتو»، التنظيم اليسارى الذى نظم الإضراب، فيما كانت دوافع «عبدالناصر» سياسية وأخلاقية خشية أن تغرق الثورة فى الدماء.
بالمعلومات الثابتة أقر اللواء «محمد نجيب» حكم إعدام «خميس» و«البقرى» بغير حق، ووضع توقيعه على قرارات اعتقال بعضها بغير ضرورة، وأصدر باسمه قانون إلغاء الأحزاب بغير تردد، ووضع «مصطفى النحاس» زعيم الوفد قيد الإقامة الجبرية، وترأس «هيئة التحرير» التنظيم الواحد بغير ممانعة.
لم يكن وحده من أقر وأصدر مثل هذه القرارات، ولا «عبدالناصر» كان بعيدًا عنها.
لم تنشأ ذرائع الديمقراطية فى إدارة صراع السلطة، إلا بعد أن جرى تهميش اللواء «نجيب»، والشروع فى عزله.
لا يمكن أن تحسب بعض القوى التى أيدت «نجيب» على أى توجه ديمقراطى مثل جماعة «الإخوان المسلمين»، التى استثنتها الثورة ـ لأسباب تكتيكية ـ من قرار حل الأحزاب دون أن تعترض على ذلك الحل، بل أيدته فى بيان معلن.
بأثر تمرد ضباط سلاح الفرسان، و«خالد محيى الدين» على رأسه، أعلن مجلس قيادة الثورة قرارات (٥) مارس (١٩٥٤)، التى تقضى بالعودة إلى الحياة النيابية وانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستورًا جديدًا، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف.
لم تشر القرارات إلى عودة الأحزاب، بل استبعدتها من انتخابات الجمعية التأسيسية، كما تجنب التمرد العسكرى فى سلاح الفرسان أية إشارة إلى الأحزاب وعودتها خشية خسارة الجمهور العام، الذى فقد ثقته فيها.
ثم صدرت قرارات أخرى فى (٢٥) مارس تقضى بإعادة الحياة النيابية، وإقامة جمهورية برلمانية، وعودة اللواء «نجيب» إلى رئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة انتقالية لمدة ستة أشهر برئاسة «خالد محيى الدين» تجرى انتخابات الجمعية التأسيسية.
أضاف «عبدالناصر» إلى تلك القرارات فقرة واحدة تعلن «حل» مجلس قيادة الثورة وعودة «الضباط الأحرار» إلى وحداتهم العسكرية.
كانت تلك الفقرة ــ مقصودة أو غير مقصودة ــ نقطة انقلاب حاسمة فى مسار أزمة مارس، فقد استفزت أسلحة الجيش بأغلب قطاعاته وحسم الأمر نهائيًا.
فى شهادة لـ«خالد محيى الدين» عن الأخطاء التى ارتكبت وأفضت إلى هزيمة المعسكر الذى يقف فيه: «الإيحاء بعودة الأحزاب القديمة على حساب الثورة دون أن يكون هناك إيضاح بأن المطلوب ديمقراطية جديدة مغايرة تمامًا لما كان قبل يوليو»، و«الهجوم على الجيش ـ كجيش ـ بما أثار حفيظة الضباط ودعاهم للتكتل خلف جمال عبدالناصر».
بنظرة إلى ما كان يجرى داخل الجيش من اعتصامات واحتجاجات على استئثار مجلس القيادة بكل السلطات، فإنه موضوع سلطة لا قضية ديمقراطية.
حسب ما هو ثابت تراجع الضبط والربط العسكريان، وارتفعت أصوات قبل تفاقم الأزمة داخل سلاح المدفعية تدعو إلى انتخاب القيادة بالتصويت داخل الجيش، وجرت اعتقالات استفزت رفاق سلاح، وبدا المشهد كله موحيًا بانقلابات عسكرية محتملة شرع بعضها فى الحركة.
كان السيناريو الأخطر انجراف الجيش إلى اقتتالات داخلية.
بحكم طبيعة تكوين «الضباط الأحرار»، لم تندرج عضويته فى رؤية سياسية وفكرية واحدة باستثناء مبادئ عامة تصلح للتجنيد والضم، لكنها لا تفى بمواجهة احتياجات إدارة الدولة على نحو يتسق مع طلب التغيير ولا طبيعته ومداه.
تشققت صفوف بدت موحدة ونشأت صراعات كانت مؤجلة.
لم تكن قيادة التنظيم مرشحة لإدارة كفؤة، وسادتها حالة ارتباك فادحة باستثناء «جمال عبدالناصر»، الذى أدار بثبات أعصاب الأزمة، قبل أن يدخل على خطها الصف الثانى من «الضباط الأحرار» بوازع الولاء لمؤسس التنظيم دون أن يطلب منهم، أو يوحى إليهم بأى تصرف.
حوصر سلاح الفرسان وحلقت طائرات حربية فوقه، ومنع إذاعة بيان باسم مجلس قيادة الثورة يعلن حله، وجرى توقيف اللواء «نجيب» وحسم الصراع بقوة السلاح، لكنه يجب ألا يغيب عن الذاكرة أنه سلاح مقابل سلاح.
وفق الوثائق المتاحة الآن كان رئيس الوزراء البريطانى «ونستون تشرشل» يتابع باهتمام ما يجرى فى مصر، ويسأل عن إحياء الخطة «روديو»، التى وضعت قواتها تحت التأهب والاستعداد للتدخل باحتلال الدلتا وصولًا إلى القاهرة.
وقد أغارت فى (٢٨) فبراير قبل الأزمة بأيام القوات الإسرائيلية على قطاع غزة، التى كانت تقع وقتها تحت الإدارة المصرية.
كانت تلك إشارة أخرى لكنها معلنة إلى الخطر المحدق عند الحدود الشرقية.
أى قراءة لأزمة مارس خارج ظروفها وسياقها تهاويم فى الفضاء.
الفقيه الدستورى عبدالرزاق السنهورى بين عبدالناصر ونجيب
فى قصة أزمة مارس أسئلة مكتومة أهمها: هل راجع «خالد محيى الدين» موقفه؟.. وكيف نظر إليها مع تعاقب العقود والأزمان واختلاف الرجال والسياسات؟
حسب نصوص مذكراته «الآن أتكلم» لم يحدث أى تعديل جوهرى على موقفه، ولا أفصح عن إعادة نظر.
وحسب شهادته، التى تضمنها كتاب «أحمد حمروش» «شهود يوليو»، لم يشر إلى أية مراجعة.
غير أن هناك شهادات متواترة نسبت إليه مثل هذه المراجعة.
بين هذه الشهادات ما استمع إليه نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور «حسام عيسى» عام (1965) من حوار بين عضو مجلس قيادة ثورة يوليو خالد محيى الدين وعالم الاجتماع المرموق فى «المركز القومى الفرنسى للبحوث العلمية» الدكتور «أنور عبدالملك» أثناء تناول العشاء فى بيت الأخير بالعاصمة الفرنسية باريس.
كان حسام عيسى يدرس درجة الدكتوراه فى القانون بجامعة السوربون وأحد أقرب تلاميذ الدكتور أنور عبدالملك، الذى رأى أن يحضر معهما العشاء حتى يتسنى له التعرف على الزعيم اليسارى القادم من القاهرة.
فيما كان خالد يتصفح مكتبة العالم الكبير ومضيفه يشرف على إعداد الطعام فى المطبخ أخذ يروى على مسامعه رواية مثيرة حدثت فى صباح ذلك اليوم، وكان حسام عيسى يتابع الحوار بين صديقين.
فيما رواه خالد أنه التقى أحمد أبوالفتح، وهو صحفى مصرى شهير مغضوب عليه، أسس إذاعة «مصر الحرة» أثناء حرب السويس عام (1956) بتمويل فرنسى ــ بريطانى.
بادره «أبوالفتح»: «يا خالد أنت من أبطال الديمقراطية فى أزمة مارس».
رد عليه: «أريد أن أقول لك يا أحمد إن عبدالناصر اتخذ الموقف الصحيح وكنت أنا على خطأ».
لكل شهادة ظروفها وسياقها، وربما قال خالد ما قال خشية أن تؤول الواقعة على نحو يسيء إليه.
وربما كانت تلك قناعته فعلًا فى الوقت الذى قيلت فيه بأثر ما أنجزته «يوليو» والتحولات التى أحدثتها والمعارك التى خاضتها.
وبين هذه الشهادات رواية تؤكد المعنى نفسه، حرفيًا تقريبًا كتبها الصحفى والإعلامى بالتليفزيون المصرى «صلاح صابر»، العضو السابق فى أمانة اتحاد الشباب التقدمى الجناح الشبابى لحزب التجمع الذى أسسه وترأسه «خالد محيى الدين».
كان ذلك فى إحدى ليالى صيف (1991)، وكانت قد مرت عقود طويلة على رحيل «عبدالناصر» واغتيال «السادات».
حسب الشهادة المكتوبة، ونصها أودعه لدى، كان هناك فى ذلك الوقت معسكر تنظيمى للقيادات الشابة فى حزب «التجمع» بمدينة الاسماعيلية شارك فيه زعيم الحزب.
كان الموضوع الرئيسى إقرار مشروع لائحة جديدة للاتحاد والنقاش فى بعض بنودها المثيرة للاعتراضات.
فى ذلك اللقاء ركز «خالد» على أهمية مراجعة المواقف السياسية بشكل نقدى، مستشهدًا بموقفه فى أزمة مارس.
قال: «كان موقفى وقتها مبدئيًا انحيازًا للديمقراطية غير أنه ثبت لى أن موقف عبدالناصر هو الأصح، ولو عاد بى الزمن لما اتخذته، فقد كان خاطئًا».
بنص الشهادة: «سألت عددًا من زملائى ممن شاركونى أمسية المعسكر فى تلك الليلة، بعضهم اعتذر لنسيانه الأمر بسبب قدم الحدث، فيما وافقنى آخرون».
بعض من ذكر أسماءهم تأكيدًا على دقة الرواية شخصيات عامة الآن تملك أن تتكلم وتروى.
هناك شهادات أخرى لشخصيات اقتربت من زعيم حزب التجمع واستمعت منه فى جلسات خاصة لم يتسن أن ينشر فحواها بالعلن.
لماذا لم يطرح «خالد محيى الدين» مراجعاته فى مذكراته المعتمدة؟
ربما لأن الذى صاغها هو الدكتور «رفعت السعيد» أقرب معاونيه وخليفته المختار فى رئاسة الحزب، وأنه قد غلب تقديره السياسى على اعتبار المراجعة.
أيًا ما كانت الحقيقة فإن الموقف الذى اتخذه «عبدالناصر» كان انحيازًا لمشروع الثورة والمضى قدمًا فى تغيير البيئة الطبقية والتوجهات الاستراتيجية فى الإقليم.
للثورات منطقها وسياقاتها.
وهذا ما يجب ألا ننساه عند قراءة تاريخنا.
خالد محيى الدين
فيما خرج «خالد محيى الدين» بعد أزمة مارس مبعدًا إلى سويسرا تعرض «يوسف صديق»، عضو مجلس قيادة الثورة لمحن إنسانية إبعادًا واعتقالًا ووضعًا قيد الإقامة الجبرية.
شخصيته تملكتها روح شاعر، «يسارى» انضم إلى «حدتو» مثل «خالد»، وحكمته النظرة نفسها فى أزمة مارس، استقال فى سبتمبر (١٩٥٤) من مجلس قيادة الثورة.
أثناء محنته الإنسانية هجا قائد «يوليو» بأقسى الأوصاف:
«لبست المسوخ وضللتنا
ولما حكمت كشفت الفتون».
عندما بدأ العدوان الثلاثى على مصر عام (١٩٥٦) التأمت الجراح بين رفاق افترقوا، وبدا القتال بشرف معنى الحياة نفسها.
«الله أكبر يا جمال جمعتنا
والعهد دون الحق أن نستشهدا
فاضرب وراءك أمة إن تدعها
لتسابقت واستعذبت طعم الردى»
عند رحيل «عبدالناصر» كتب أجمل وآخر قصائده قبل أن يرحل بدوره عام (١٩٧٥):
«أبا الثوار هل سامحت دمعي
يفيض وصوت نعيك ملء سمعي؟
وكنا قد تعاهدنا قديمًا
على ترك الدموع لذات روعِ».
«بكتك عيون أهل الأرض حولى
فكيف أصون بين الناس دمعي؟».
من مفارقات «يوليو» أن الرجل الذى أنقذ الثورة من فشل محقق باقتحام قواته مقر القيادة فى «كوبرى القبة» ليلة (٢٣) يوليو قبل الموعد المحدد بساعة، والقبض على كل من فيه من قيادات، ذهب إلى ظل النسيان بلا إنصاف يستحقه، فيما صعد رجل آخر هو «أنور السادات» ارتاد تلك الليلة مع السيدة حرمه إحدى دور السينما واحتفظ معه بتذكرتى الدخول حتى يثبت إذا ما فشل التحرك العسكرى أنه لم يكن طرفًا فيه.
مثل تلك المفارقات تحدث كثيرًا فى الثورات والتحولات الكبرى.
فى مثل تلك الأحوال جرت واقعتان لهما وقع ثقيل.
الأولى ـ حين نظمت «هيئة التحرير» إضرابًا للمواصلات العامة دعمًا للثورة، التى كانت قد ألغت الفصل التعسفى للعمال، وتحركت «حدتو» بوزن حضورها العمالى لمحاولة إجهاض ذلك الإضراب.
تواترت معلومات عن ضخ أموال فى تنظيم إضراب المواصلات العامة حتى يعود مجلس قيادة الثورة عن قرارات (٢٥) مارس، التى حلته.
ضخمت أحجام الأموال حتى قيل ـ بمبالغة مفرطة ـ إنها خمسة ملايين جنيه، بينما أكد «إبراهيم الطحاوى» سكرتير عام مساعد «هيئة التحرير» إنها فى حدود ألفى جنيه.
تفاوتت الأرقام بين شاهد وآخر.
يقال ـ عادة ـ فى أزمات كسر العظام إن كل شيء مباح، الضرب فوق الحزام وتحته.
كانت الناس مع الثورة بقدر ما أنجزت وبشرت بعالم أكثر عدلًا فى مجتمع يطحنه الفقر المزمن، ولم تكن فى حاجة لمثل هذه التصرفات.
والثانية ـ الاعتداء على الفقيه القانونى المستشار «عبدالرزاق السنهورى»، من متظاهرين حاصروا مجلس الدولة، الذى يترأسه.
تعددت الروايات، أغلبها يؤكد الاعتداء، وبعضها يقول إنه سقط بالتدافع حوله.
فى الروايتين المتناقضتين كان ذلك مما لا يقبل بحق منصبه وقيمته كأهم قانونى عربى فى التاريخ الحديث، فضلًا عن أنه ـ من حيث المعنى العام ـ لا يقبل بحق أى صاحب رأى مهما اختلف.
حسام عيسى
بأى نظر موضوعى فإن اللواء «محمد نجيب» ضابط وطنى مصرى، حارب فى فلسطين وجُرح ثلاث مرات ونال أوسمة على شجاعته وتمتع بخصال شخصية أكسبته ثقة «الضباط الأحرار».
مما يحسب له تحمله مسئولية الموقف الصعب ليلة (23) يوليو، الذى كان ممكنًا أن يدفع ثمنه حياته مع «عبدالناصر» ورفاقه.
لم يكن مؤسس تنظيم «الضباط الأحرار» ولا قائده، ولم يحضر اجتماعًا واحدًا لهيئته التأسيسية قبل الثورة، كما لم يكن صاحب خطة التحرك التى حددت ساعة الصفر، لكن اسمه على رأس الحركة ساعدها على اكتساب ثقة المجتمع بما يتمتع به من سمعة طيبة.
كانت معضلة «الضباط الأحرار»، الذين أطاحوا بالنظام الملكى المتهاوى، أن قائدهم «عبدالناصر» فى الرابعة والثلاثين من عمره ورتبته «بكباشى»، وهو أمر يصعب تقبله من مجتمع تقليدى يضع للسن اعتبارها فى تولى المسئولية العامة.
هذا كله صحيح وثابت ويستحق «نجيب» بمتقضى حقائقه إنصاف دوره، غير أن أى إنصاف له إطار وسياق، وإلا فإنه اعتداء على الحقائق ومبالغة فيما لا يصح أن يبالغ فيه.
كانت أزمة مارس صدامًا محتمًا بين رجلين وتوجهين، فـ«نجيب» واجهة الثورة، التى ضمنت نجاحها بالنظر إلى رتبته الكبيرة والشعبية التى حازها، وهو عسكرى قبل أن يكون سياسيًا ونظرته العامة محافظة، و«عبدالناصر» قائد «الضباط الأحرار»، وهو سياسى قبل أن يكون عسكريًا ونزعته ثورية، رغم أنها لم تكن قد استكملت ملامحها.
لم يكن اللواء «نجيب» الاسم الوحيد الذى فكر فيه ثوار «يوليو» ليكون واجهتها، فقد جرى التفكير فى قائد عسكرى آخر من قيادات حرب فلسطين يتمتع بقوة الشخصية، هو اللواء «فؤاد صادق»، غير أنه أجفل عن قبول المهمة التى قد تكون نتائجها وخيمة.
بحسب رواية غير مؤكدة فإن الاقتراح نفسه عرض على الفريق «عزيز المصرى»، لكنه اعتذر بسبب تقاعده منذ فترة طويلة.
كان «نجيب»، هو الخيار الأفضل بالنسبة لـ«عبدالناصر» والأكثر استعدادًا فى الوقت نفسه لتصدر الحركة.
«عبدالناصر»، اختار و«نجيب» وافق ــ وتحددت مصائر اللعبة بعد ذلك على هذا الأساس.
القائد الحقيقى ليس هو القائد الواجهة والرجل القوى ليس هو الرئيس المعلن.
لم يكن «عبدالناصر» متآمرًا ولا كان «نجيب» ملاكًا.
وقد ورد فى التحقيقات، التى أجريت مع المتورطين من جماعة الإخوان المسلمين فى محاولة اغتيال «عبدالناصر» عام (١٩٥٤)، أن الرئيس «نجيب» كان على علم مسبق بما خطط له، لكنه طلب عدم ذكر اسمه إذا لم تنجح المحاولة خشية ردات الفعل.
أكد مسلسل «الجماعة ـ ٢»، للمؤلف «وحيد حامد» الواقعة التاريخية، وأهمية تأكيده ترجع أساسًا إلى ما أبداه من عدم تعاطف مع «عبدالناصر».
الوثائق الكاملة للتحقيقات، التى تثبت التورط، مودعة فى أرشيف رئاسة الجمهورية ـ حسب تأكيدات «سامى شرف»، الرجل الذى كانت فى عهدته تلك التحقيقات.
حسب شهادة للمؤرخ «جمال شقرة» فإن اللواء «نجيب» صارحه فى لقاء بينهما: «كنت ساذجًا عندما صدقت الإخوان».
كما اعترف لنفس المؤرخ بأنه «أعطى تطمينات شفاهية للأمريكيين بالسلام مع إسرائيل».
بعض من كانوا حول «نجيب» فى مكتبه ينفون قطعيًا أى تورط من هذا النوع.
لم تجر أية محاكمة له تقديرًا لدوره فى تصدر مشاهد الثورة الأولى، ولا شُهر به على صفحات الجرائد.
طويت صفحته وغاب ذكره وأودع تحت الإقامة الجبرية فى قصر بالمرج تملكه السيدة «زينب الوكيل»، حرم «مصطفى النحاس».
بنظرة منصفة فقد كان يستحق بعد مضى عدد من السنين عفوًا وتسامحًا ورد اعتبار فى حدوده خاصة بعد اكتساب «عبدالناصر» شعبية لا مثيل لها فى التاريخ الحديث، وتثبيت أركان حكمه إثر حرب السويس (١٩٥٦).
وكان «النحاس» يستحق تكريمًا لعطائه الوطنى، الذى أكسبه شعبية لا شك فيها لعقود طويلة، بغض النظر عن افتراق الطرق.
لماذا لا تنشر الوثائق المودعة فى أرشيف رئاسة الجمهورية، حتى يمكن قراءة التاريخ والحكم عليه بصورة موضوعية ودقيقة؟
هذا سؤال جوهرى يدخل فى صميم أغلب الملفات الملغومة والملتبسة والمعلقة على أهواء.
يتبدى ـ هنا ـ سؤال افتراضى: ما الذى كان يمكن أن يفعله اللواء «نجيب» بمجلس قيادة الثورة إذا ما قدر له حسم السلطة بدعم من الإخوان المسلمين؟
التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية وصراعات السلطة لا تعرف الرحمة.
الإجابة المرجحة: التنكيل المفرط.
هل كان يمكن أن تكون هناك ديمقراطية تعددية مع الأفكار الشائعة لجماعة «الإخوان المسلمين»، التى تناهض الفكرة من أصولها إذا ما قدر لـ«نجيب» أن ينتصر فى صراع السلطة؟
أية إجابة مستخفة معبر إلى مجهول معتم.
ما تحتاجه مصر أن تقرأ تاريخها بموضوعية، وأن تنصف نفسها أولًا بكل ما خاضته من معارك وبذلته من تضحيات، حتى تستحق أن يرتفع من جديد ذكرها.