قوة الولايات المتحدة وضعفها
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 18 سبتمبر 2021 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
فى العلاقات الدولية نظرية تعتبر أن كل ما فى هذه العلاقات مبنىٌ. بعبارة أخرى، المجتمع الدولى والفاعلون فيه يبنون المفاهيم، أى إنهم ينتجونها، ويمنحونها المعانى. فى هذه النظرية البنائية، القدرة على إنتاج المفاهيم وإسباغ المعانى عليها، هى أفضل تعبير عن القوة. المفاهيم والمعانى تشكل البنية التى يتحرك فيها النظام الدولى وتحدد ما هو مشروع وما هو غير ذلك.
ليس الغرض من هذا المقال الدخول فى مناقشات نظرية. الإشارة إلى النظرية البنائية يهدف فقط إلى تفسير أننا نعتبر أن القوة الهائلة للولايات المتحدة فى النظام الدولى الحالى، وكذلك السابق عليه، تمثلت فى إقناع أطراف هذا النظام وكل الفاعلين فيه بأنها تمتلك كل عناصر القوة المادية والقوة الرمزية، أى تلك القوة غير الملموسة، المؤسسية منها وما اندرجت تسميته فى العقود الأخيرة بالقوة الناعمة. هذا المقال يعتبر أن الولايات المتحدة تختلط فيها مظاهر القوة ومظاهر الضعف. مظاهر القوة هى فى القوة المادية ومظاهر الضعف هى فى القوة المؤسسية. مظاهر الضعف هذه تنتقص من آثار نفس القوة المادية وهى لا بدّ أن تؤدى إلى تآكل القوة الناعمة الأمريكية، هذه القوة الناعمة التى بنت بها الولايات المتحدة فكرة تسيدها الذى لا يقاوم على العالم ورسختها. أما القوة الناعمة فهى فى تقدير من صاغ المفهوم، عالم العلاقات الدولية الأمريكى جوزيف ناى، تستند إلى ركائز ثلاث هى الثقافة، والقيم السياسية، والسياسة الخارجية. الثقافة عندما تجذب الآخرين إلى الدولة المعنية، والقيم السياسية عندما تعليها الدولة وتحفظها وتعمل بها داخليا وخارجيا، والمقصود بهذه الدولة فى كتابات ناى هى الولايات المتحدة، والسياسات الخارجية عندما يعتبرها الآخرون شرعية وذات سلطة أخلاقية. حينما تجتمع هذه الركائز الثلاث، تجتذب الدولة المعنية الآخرين إلى نموذجها، وينزل هؤلاء الآخرون على ما تريده هذه الدولة دونما حاجة بها إلى ممارسة القوة المادية الصلبة. هذا المقال لا يتناول الثقافة، ولكنه يعتبر أن الإخفاقات المتكررة للسياسات الخارجية الأمريكية فى العقود الخمسة الأخيرة وتنكر الولايات المتحدة للقيم التى ترفعها قد قوّضت القوة الناعمة الأمريكية، وهى قوة ضرورية لممارسة القوة المادية الصلبة ذاتها. أما أسباب الإخفاق ومصدر الضعف فهو النظام المؤسسى الأمريكى، أى فى النظام السياسى، الذى لا يكف عن اتخاذ قرارات بسياسات فاشلة خارجيا وكذلك داخليا.
•••
قبل أن نستعرض بعضا من هذه السياسات، نمر على عدد من مظاهر قوة الولايات المتحدة المادية. فى سنة 2021، تنفق الولايات المتحدة على الدفاع 772 مليار دولار، أى أكثر مما تنفقه الدول السبع التالية عليها مجتمعة، وهى الصين والهند وروسيا والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية وألمانيا وفرنسا. إجمالى ما تنفقه هذه الدول السبع 609 مليارات دولار، أى أقل من الولايات المتحدة بأكثر من 160 مليار دولار. والولايات المتحدة كانت تمتلك حوالى 13,000 طائرة حربية فى سنة 2016 حينما كانت تملك روسيا والصين اللتان تأتيان بعدها فى الترتيب الدولى ثلاثة آلاف وألفى طائرة فقط على التوالى. وللولايات المتحدة حوالى 800 قاعدة عسكرية فى الخارج فى أكثر من سبعين بلدا، بينما لا يتعدى عدد القواعد الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية الثلاثين قاعدة مجتمعة. وتتقدم الولايات المتحدة فى صناعة الطائرات الحربية بدون طيارين على غيرها وإن كانت تنافسها الصين وروسيا فى هذه الصناعة، تليها إسرائيل وتركيا. وعلى عهدة مصدر بريطانى هو الجارديان سيكون فى حوزة الولايات المتحدة ألف طائرة حربية بدون طيار فى سنة 2028 بينما ستمتلك الصين وروسيا أقل من واحد على عشرة من هذا العدد. والولايات المتحدة هى الدولة الأولى المصدرة للسلاح، صدرت بما قيمته 10,5 مليار دولار فى سنة 2018 أمام روسيا التى صدرت سلاحا قيمته 6,4 مليار دولار فى العام نفسه. فى عدد الأسلحة النووية والدبابات فقط، تجىء الولايات المتحدة فى المركز الثانى خلف روسيا. تمتلك روسيا حوالى 12,000 دبابة بينما تحوز الولايات المتحدة 6,600 دبابة. أما الأسلحة النووية فتمتلك منها روسيا 6,255 قطعة فى سنة 2021 بينما تمتلك الولايات المتحدة 5,550 سلاحا نوويا فقط. ولننتهى من الاستعراض السريع لمظاهر قوة الولايات المتحدة، نذكر أن حجم الاقتصاد الأمريكى يبلغ 20,5 ترليون دولار فى 2021، أما الصين بـ13، 4 ترليون واليابان بـ5 ترليونات. الاقتصاد الأمريكى يمثل 22,3 فى المائة من حجم الاقتصاد العالمى فى سنة 2021، ولكن تفوقها هذا فى تراجع تاريخى مستمر منذ سنة 1960 عندما كان الاقتصاد الأمريكى يمثل 40 فى المائة من الاقتصاد العالمى. هذا التراجع المستمر ما يجعل الولايات المتحدة تتصرف بعصبية وقلق.
•••
ننتقل الآن إلى مظاهر الضعف الأمريكى، ونبدأ بمجال السياسات الخارجية، ولكننا لن نكتفى بها بل سننظر كذلك فى أوجه قصور داخلية. بعد سقوط كابول فى أيدى طالبان، ملّ الناس فى الشهر الأخير من تذكير المعلقين فى كل مكان، بما فيه فى هذه المساحة من «الشروق»، بفشل الولايات المتحدة فى فيتنام. ولكن حالات فشل السياسة الخارجية الأمريكية لا تقتصر على فيتنام. ننتقى بعضا من أمثلة هذا الفشل دون أن يعنى ما ننتقيه الحكم إيجابا أو سلبا على خصوم الولايات المتحدة أو أعدائها.
عند خروج دولة من الدول عن طوع الولايات المتحدة، فإن هذه الأخيرة لجأت إلى أداة من اثنتين، إما العقوبات وإما العمل العسكرى المشروع، الذى يصرح به مجلس الأمن، أو غير المشروع، الذى يشن بغير تصريح من مجلس الأمن. بتحريض أمريكى، فرض مجلس الأمن عقوبات على العراق منذ التسعينيات من القرن الماضى، ولما لم تفلح العقوبات فى تحقيق أهدافها المبهمة، تدخلت الولايات المتحدة عسكريا بشكل غير مشروع. نتيجة التدخل كانت زرع الصراع الطائفى فى العراق وتأجيج الطائفية فيه ومنحه على طبق من فضة لسنوات طويلة لعدوها إيران! أما إيران نفسها، فعلى الرغم من مصادرة الولايات المتحدة لأرصدتها المالية لأكثر من أربعين عاما، وبالرغم من سلاسل العقوبات التى فرضتها أو حرضت على فرضها عليها فى العقود الثلاثة الأخيرة، فإن إيران لم تسلِّم لها. والولايات المتحدة موجودة فى سوريا بدون سياسة أصلا فى الوقت الذى تزدهر فيه روسيا وإيران فيها. فى فلسطين، فى سكوت الولايات المتحدة على الغارات الإسرائيلية على غزة، وعلى بناء المستوطنات، وعلى ضم الأراضى المحتلة، وتجاهلها لقواعد القانون الدولى كشف لخواء القيم التى ترفعها. وخارج الشرق الأوسط، تخضع كوبا لعقوبات أمريكية منذ ستة عقود وهى ما زالت على مسارها. ومنذ سنة 2017، تفرض الولايات المتحدة عقوبات على حكم الرئيس مادورو فى فنزويلا، وما زال حكم مادورو قائما. ومنذ سنة 2014، تفرض الولايات المتحدة عقوبات على روسيا لغزوها شبه جزيرة القرم وضمها إليها، ولم يحرك ذلك شعرة فى رأس الرئيس بوتين. وفى آسيا، بعد تقييد التجارة معها لعقود طويلة وفرض عقوبات عليها منذ سنة 2016، لم يفلح لا الرؤساء الديمقراطيون ولا الجمهوريون فى حمل كوريا الشمالية على التخلى عن برنامجيها لإنتاج الأسلحة النووية والصواريخ البالستية. الفشل المتتالى فى السياسة الخارجية يكشف عن عدم فاعلية القوة المادية للولايات المتحدة وهو فى الوقت نفسه قوّض واحدة من الركائز الثلاث للقوة الناعمة. تدهور القوة الناعمة هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الولايات المتحدة لأنه يؤثر على فكرة تسيدها للعالم التى بنتها وعلى إقناع الآخرين، حتى حلفائها، بإسباغ الشرعية على استخدامها لقوتها المادية. وبالمناسبة، انظر إلى ما فعلته الولايات المتحدة منذ أيام. هى حملت أستراليا على فسخ تعاقد مع فرنسا على عدد من الغواصات لتشترى بديلا عنها غواصات أمريكية فى إطار اتفاقية ثلاثية جمعت البلدين وبريطانيا فى تحالف للبلدان الناطقة بالإنجليزية، تلك الفكرة البالية. أى أثر يكون لذلك على مصداقية الولايات المتحدة والقيم التى تدافع عنها لدى حلفائها الأوروبيين؟ نذكر بأن القيم من ركائز القوة الناعمة.
•••
نصل الآن إلى سياسات الداخل الأمريكى والفشل الذى تعانى منه. الولايات المتحدة، البلد الذى مثّل إنتاجه الاقتصادى يوما أربعين فى المائة من الإنتاج العالمى وما زال يمثل 22 فى المائة منه، يقع فى الترتيب الدولى للبنية الأساسية فى المرتبة الثالثة عشرة بعد دول مثل النمسا وكوريا الجنوبية وإسبانيا والإمارات. الفشل كان ذريعا فى مواجهة إعصار كاترينا الذى ضرب ولاية لويزيانا بشكل خاص فى سنة 2005 ثم فى مواجهة إعصار ماريا الذى ضرب جزيرة بويرتوريكو فى سنة 2017. الإنفاق على الصحة العامة فى مقابل جودة أداء الخدمات الصحية مثال آخر على تواضع السياسات التى تصدر عن النظام السياسى وعلى فشله فى تصحيحها. تجد أعلى متوسط للإنفاق الفردى على الصحة فى الولايات المتحدة وهو بلغ 11,072 دولار فى سنة 2019، بينما لم تنفق الدولة الثانية وهى سويسرا غير 7,732 دولار، وأنفقت أيسلندا والنرويج وهولندا ولوكسمبورج وفنلندا وأستراليا من الدولارات 4811 و6647 و5765 و5558 و4578 و5187 على التوالى. باستثناء سويسرا والنرويج أنفقت كل هذه الدول أقل من نصف ما أنفقته الولايات المتحدة، ومع ذلك فقد سبقتها كلها من حيث أداء النظام الصحى، بل إن الولايات المتحدة لم تأت إلا فى المرتبة الثالثة عشرة فى ترتيب أداء النظم الصحية للدول المتقدمة. أدنى توقع للعمر عند الولادة فى بلدان منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية هو فى الولايات المتحدة، وفيها معدل الإصابة بالأمراض المزمنة ضعفه بين البلدان الأعضاء فى المنظمة.
•••
فى عصر العولمة الحالى حيث يشاهد الناس أداء الآخرين فى نفس زمن وقوع الأحداث ويقرأون عنه. صورة الولايات المتحدة أصيبت والأرجح أن تستمر فى التعرض للإصابات. المسألة الأهم هى أن صورة متدهورة للولايات المتحدة هى نقيض كل ما تظنه المؤسسة السياسية والثقافية الأمريكية عن نفسها وعن بلدها التى تعتبرها منارة العالم المبعوثة لإنقاذه. فى المرة الماضية التى أصيبت فيها صورتها إصابة بالغة، بعد هزيمتها فى فيتنام، شكَّت الولايات المتحدة فى نفسها لسنوات قليلة، ولكن بدلا من أن يؤدى بها ذلك إلى مراجعة طرائق اتخاذها لقراراتها الخارجية والداخلية، رجعت إلى سيرتها الأولى حتى وصلت إلى ما هى عليه اليوم.
مراقبة سلوك الولايات المتحدة ضرورى لما لها من قوة مادية ولتأثيرها على النظام الدولى. هذا التأثير مرشح للانحسار بفعل التراجع النسبى فى القوة المادية للولايات المتحدة والتراجع المطلق فى قوتها الناعمة المعنوية. الخطورة كلها تكمن فى التناقض بين فكرة المؤسسة الأمريكية عن الولايات المتحدة وعن نفسها وصورة الولايات المتحدة لدى نفس حلفائها ولدى غير حلفائها.
سلوك الولايات المتحدة يؤثر علينا فى مصر والعالم العربى عن طريقين. الأول غير مباشر عبر النظام الدولى، والثانى مباشر عبر سلوكها فى القضايا التى تخصنا.
لأننا أطراف فى النظام الدولى وبسبب مصالحنا الخاصة، لا بدّ لنا أن نراقب سلوك الولايات المتحدة وصورتها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة