الانتخابات المقبلة.. بين المشاركة والمقاطعة والآمال المعقودة
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 أكتوبر 2011 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
ليس المكسب الوحيد من الانتخابات البرلمانية القادمة أن يفوز بالمقاعد نواب جدد عن الشعب. هذه طبعا هى النتيجة المنشودة والدافع لخوض المعارك الانتخابية. وإذا جاءت الانتخابات المقبلة نزيهة وآمنة فإن مصر تكون بذلك قد قطعت خطوة كبيرة فى اتجاه إقامة حكم ديمقراطى سليم. ومع ذلك فإن هناك مكسبا آخر رئيسيا من الانتخابات يبدو أنه قد توارى فى خضم الصراعات الحزبية والحديث عن الكتل والتحالفات، وهو أن تعود للناس رغبتها فى المشاركة، وأن يستمر الوعى السياسى الذى عاد بسبب الثورة، وأن تقبل الجماهير على المشاركة وتبتعد عن العزوف الذى كان سمة السنوات الماضية. أقول ذلك بمناسبة الجدل الدائر فى الأوساط السياسية حول مقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها.
الدافع للمقاطعة لا يستهان به. فقانون الانتخابات جاء فى نهاية الأمر ــ وبعد تضارب وتردد وتفاوض ــ بعيدا عن الآمال المعقودة عليه وبشكل عام دون المستوى. للأسف أن تأتى الخطوة الأهم فى تقدم مصر نحو الديمقراطية بهذا الشكل الهزيل والمضطرب: نظام انتخابى معقد بلا داع، وحلول وسط غير مفهومة، وقرارات تنفيذية لم تصدر بعد، وغياب ضوابط تمويل الدعاية الانتخابية، وحديث عن قانون للعزل السياسى بعد أن تقدم المرشحون بأوراقهم، وتعديلات حتى اللحظة الأخيرة، وتصرفات كلها لا تأتى من بلد عريق فى التشريع ولديه من الخبراء والفقهاء ما يكفى العالم العربى كله. لذلك أعترف أننى كنت بداية من أنصار أن تستمر الأحزاب فى الضغط من أجل تحسين قانون الانتخابات وصولا إلى المقاطعة إذا استمر الوضع على ما هو عليه. ولكن إعادة التفكير فى الموضوع جعلتنى أعدل عن هذا الموقف لعدة أسباب.
السبب الأول أن طلب إجراء تعديلات جذرية على النظام الانتخابى الحالى يعنى تأجيل الانتخابات ربما لفترة طويلة، وهذا أمر لم يعد البلد يحتمله لأنه يؤجل ويطيل استمرار المرحلة الانتقالية التى أصبح الخروج منها ملحا إلى أقصى الحدود، خاصة فى ظل ضعف أداء الحكومة وعجزها عن اتخاذ القرارات المطلوبة فى مجال الأمن والاقتصاد وتقديم الخدمات والإصلاح السياسى. لذلك فإن كل تأجيل صار يعنى الاستمرار فى دفع ثمن فادح أمنيا واقتصاديا وسياسيا لا أظن أن الناس تتحمله. الانتخابات، بكل عيوب النظام الذى ستجرى بموجبه، صارت رمزا للأمل فى تحقيق الخطوة الأولى فى طريق طويل يؤدى فى نهاية الأمر إلى حكم ديمقراطى.
السبب الثانى أن خيار المقاطعة قد يكون مستندا لأسباب واعتبارات مبدئية، ولكنه يؤدى إلى الانسحاب من الساحة السياسية وهو آخر ما تحتاجه الأحزاب التى تم استدراجها خلال الأشهر الماضية فى معركة تلو الأخرى حول الدستور والقانون وتشكيل الكتل والتحالفات فيما بينها والاتفاقات مع المجلس العسكرى، وكل ذلك جاء على حساب تعطيل اتصالها بالجماهير وبالناخبين وبناء القواعد الحزبية وطرح برامجها الاقتصادية والاجتماعية على الناس. مقاطعة الانتخابات الآن سوف تزيد من حدة هذا الوضع وتزيد من عزلة الأحزاب عن جماهيرها. ولذلك فإن خوض المعركة الانتخابية قد تكون الفرصة الأخيرة لكى تخرج الأحزاب والقوى السياسية من حالة الحوار المغلق فيما بينها، وأن تعود لدورها الأصلى وأن تختبر أفكارها وبرامجها ومواقفها مع الناخبين، وهذا هو أساس العمل السياسى الديمقراطى. صحيح أن الوقت المتبقى غير كاف، وأن أسابيع قليلة تفصلنا عن الانتخابات، إلا أنها فترة ضرورية لخروج الأحزاب من تقوقعها. وأظن أن هذه العزلة التى فرضتها الأحزاب على نفسها وابتعادها عن العمل الجماهيرى كانت أحد أسباب حالة الانقسام وموجة الاستقالات التى اجتاحت العمل الحزبى فى مصر. كذلك فإن عودة الأحزاب للنشاط السياسى الجماهيرى هو ما يمكن أن يعيد لها هويتها وترابطها لأنه يجدد لدى أعضائها وأنصارها الشعور بجدوى العمل السياسى.
أما السبب الثالث والأخير فهو أن خيار المقاطعة سوف يكون مخيبا لآمال جماهير واسعة، قد لا تكون شاركت فى الثورة منذ بدايتها إلا أنها مع الوقت خرجت من عزلتها وصارت مستعدة للمشاركة فى التعبير عن مواقفها السياسية عن طريق الاقتراع. هذا مكسب كبير وتقدم ملموس ومؤثر نحو الديمقراطية، والمقاطعة إن لم تكن استجابة لمطلب الناس فإنها سوف تخذلهم وتعيد إليهم القناعة بأن العمل السياسى كله لا ينطوى إلا على مناورات وسعى لمصالح خاصة، ولذلك فإن المقاطعة لا تكون خيارا إيجابيا إلا إذا كانت استجابة لرأى الناس وهو ما لا أراه متوافرا فى الوضع الحالى. لذلك أعود إلى فكرة أن الغرض والمكسب من الانتخابات ليس مجرد اختيار أعضاء مجلسى الشعب والشورى، وإنما الأهم أنها الوسيلة الوحيدة لبناء الديمقراطية وبناء الأحزاب وصقل الوعى السياسى لدى الناس، وكل هذا لن يتحقق بمقاطعتها.
لهذه الأسباب وجدت نفسى مقتنعا بضرورة المشاركة الإيجابية من الأحزاب فى الانتخابات القادمة. ولكن هل يعنى ذلك أن تكون المشاركة دون قيد ولا شرط؟ بالتأكيد لا، وكما أن المقاطعة عام 2010 كانت صائبة حينما صار واضحا أن الانتخابات لن تكون سوى مسرحية هزيلة لتزوير إرادة الشعب، كذلك فإن المقاطعة يجب أن تظل خيارا مفتوحا وضروريا إذا ما انحرفت الانتخابات القادمة عن مسارها وتحولت إلى مجرد إجراء شكلى لا يخدم جوهر الديمقراطية. وبقدر ما يجب على القوى السياسية والأحزاب أن تشارك بإيجابية فى الانتخابات المقبلة، بقدر ما عليها أيضا أن تستمر فى الضغط والإصرار حتى اللحظة الأخيرة على تحسين ظروف إجرائها وعلى رفض ما يهدد مصداقيتها. يجب أن نستمر فى المطالبة بضوابط تمويل الدعاية الانتخابية حتى لا تعود الرشوة سيدة الموقف، ويجب أن نتمسك بحياد أجهزة الدولة التى تنظم العملية الانتخابية، وأن نضع الحكومة والمجلس العسكرى أمام مسئوليتهما التاريخية فى توفير الأمن والنظام ووأد كل محاولات الفوضى والبلطجة والفتنة الطائفية، وأن نعمل على أن تكون قرارات اللجنة العليا للانتخابات واضحة وسريعة وحاسمة حفاظا على مصداقية الاقتراع، وأن نتحد وراء المطالبة بإعلام محايد. مصداقية ونزاهة الانتخابات القادمة هى الهدف الذى يجب أن تقف وراءه كل القوى السياسية متحدة لا متنافسة، ولا يهم عندئذ من يكسب ومن يخسر، ولا من يكون التيار الغالب فى المجلس التشريعى. ولكن لكى يتحقق ذلك فإن المشاركة الإيجابية فى الانتخابات القادمة يجب أن تتواكب مع الإصرار على ألا تنحرف العملية الانتخابية كما انحرفت فى الماضى، وإلا فإن المقاطعة قد تكون الخيار الأخير.