حرب غزة ولبنان.. الشرق الأوسط بين تحديات إعادة الإعمار وأخطار سباقات التسلح وأزمة الميليشيات
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 18 أكتوبر 2024 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
بجانب الكلفة الإنسانية والمادية الباهظة، كلفة الدم والدمار، تواجهنا الحرب المستمرة فى غزة ولبنان والعمليات العسكرية المتكررة على رقعة واسعة من الشرق الأوسط تمتد من سوريا إلى اليمن بأخطار وتحديات عديدة ترد على أمن المنطقة التى تعيش فيها مصر وتتقاطع مصائرنا مع مصائر شعوبها الأخرى.
من جهة أولى، يعانى الشعب الفلسطينى فى القطاع من انهيار كامل لمقومات الحياة الآمنة وتتدهور الأوضاع المعيشية للشعب اللبنانى وللاجئات واللاجئين الفلسطينيين والسوريين الذين يقيمون على أرض لبنان بسبب واقع التهجير الداخلى المرير. فى غزة والتى أجبر سكانها جماعيًا على النزوح المتواتر بين مناطق القطاع بسبب الحرب، يغيب الملجأ الآمن وتغيب الخدمات الصحية الضرورية مثلما تتراجع إلى معدلات دنيا إمدادات المياه والغذاء ورعاية المحتاجين. غزة اليوم هى أرض دمرت بناها ومرافقها الأساسية، ويحتاج أهلها إلى جهود إغاثية كبرى لكى يواصلوا الحياة فى ظروف الحرب المستمرة. غزة اليوم هى أرض يستحيل فيها الشروع فى جهود إعادة البناء والإعمار بسبب رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار، وبسبب انهيار مؤسسات إدارة القطاع والضغوط الهائلة التى تُعرّض لها حكومة بنيامين نتنياهو الأونروا (الوكالة الأممية لغوث اللاجئين).
أما لبنان، فصار اليوم فى معية كل الأزمات الحياتية المرتبطة بنزوح مليون إنسان -مواطنين ولاجئين- وهو ما يشكل ربع سكان بلد يعانى منذ سنوات من أزمة اقتصادية ومعيشية طاحنة. مدارس تفتح أبوابها لإيواء الأشخاص النازحين من الجنوب ومن الضاحية الجنوبية لبيروت، بلدات حدودية دمرت بالكامل وانهارت المقومات الاقتصادية لوجودها (النشاط الزراعى)، بلدات على جبال لبنان لا تملك إمكانيات إسكان وإعاشة الأعداد الكبيرة الباحثة عن ملاذات آمنة بعيدًا عن الصواريخ والمسيرات الإسرائيلية، ومئات الآلاف من اللاجئات واللاجئين السوريين الذين هربوا من الحرب والعنف فى بلادهم إلى لبنان ويعودون إليها ومعهم أسر لبنانية فارين من جحيم المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله. لبنان أيضًا سيحتاج إلى جهود مكثفة وإمكانيات إقليمية ودولية للتعامل مع الأزمات المترتبة اليوم على النزوح، وحتمًا سيستلزم المزيد منها للشروع فى إعادة البناء والإعمار ما أن تتوقف آلات الحرب.
• • •
الشاهد أن التحديات الراهنة لإعادة البناء والإعمار فى غزة ولبنان تأتى فى لحظة إقليمية ودولية صعبة. فى الشرق الأوسط، وبسبب مسارح الحروب الأهلية التى انتقلت من العراق وسوريا وليبيا إلى اليمن والسودان والدمار المتكرر فى غزة، أضحت إمكانيات الدول المستقرة للمساعدة والتمويل وتشجيع القطاع الخاص الوطنى على المشاركة الإيجابية إما محدودة موضوعيًا أو قلقة سياسيًا. أما دوليًا، وذلك أمر غير منبت الصلة بصعود اليمين المتطرف فى البلدان الغربية، فتتراجع المساعدات والاستثمارات المقدمة لجهود إعادة البناء والإعمار فى الجنوب العالمى مع تخفيض الحكومات الغنية لاعتمادات التنمية والإغاثة (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والسويد كنماذج أوروبية) ومع تركيز الدول الغربية على دعم أوكرانيا والاستعداد لمتطلباتها الاقتصادية والمعيشية ما أن تضع الحرب بينها وبين روسيا أوزارها.
يعنى ذلك أن إعادة البناء والإعمار فى غزة ولبنان، وهما شرطا الحيلولة دون التهجير القسرى لسكان القطاع الذى ما زال يداعب خيال البعض فى إسرائيل وشرطا عودة النازحات والنازحين إلى بلداتهم ومدنهم فى لبنان على نحو لا يخل بتوازنات تركيبة طائفية معقدة، سيضغطان بقسوة على شرق أوسط أرهقته الحروب الكثيرة خلال السنوات الماضية وعلينا فى مصر ونحن نعمل على تجنب سيناريوهات التهجير القسرى لأهل غزة وتصفية القضية الفلسطينية ونبحث عن استقرار لبنان وتجنيبه المزيد من الأزمات المجتمعية والسياسية. ولا سبيل للتعامل الفعال مع تلك الضغوط سوى بعمل عربى واسع يشمل مصر والأردن ومعهما دول الخليج ومعهما أيضا العراق والجزائر والمغرب وبالتنسيق مع أطراف إقليمية كتركيا وأطراف دولية كالصين واليابان والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية بهدف إطلاق ما يكفى من جهود إعادة البناء والإعمار، ليس فقط فى غزة ولبنان، بل أيضًا فى سوريا واليمن والسودان وليبيا حين يسمح الواقع السياسى بذلك.
• • •
من جهة ثانية، ترتب الحرب فى غزة ولبنان والعمليات العسكرية المتكررة على رقعة واسعة من الشرق الأوسط توريط دول المنطقة فى سباق تسلح بالغ الخطورة لن يتوقف عند السعى للحصول على صواريخ حديثة وذخائر فتاكة وطائرات ومسيرات الأجيال الحديثة ونظم الدفاعات الجوية الأكثر تقدما وإمكانيات متفوقة فيما خص تكنولوجيا جمع المعلومات وتتبع الاتصالات والعمل الاستخباراتى، بل قد تتفلت الأمور لدى البعض باتجاه تطوير أسلحة الدمار الشامل أو الاستحواذ عليها كوسائل ردع وحماية نهائية (كوريا الشمالية نموذجا وأسلحة الدمار الشامل بحوزة الهند وباكستان التى حالت دون حروب إضافية بينهما مثالًا).
والبون شاسع، استراتيجيًا واقتصاديًا وسياسيًا، بين التوريط غير المسئول للشرق الأوسط فى سباق تسلح محموم تقوده اليوم دون أدنى شك إسرائيل وإيران واحتمالات تفلته باتجاه تكالب كارثى آخر على أسلحة الدمار الشامل، وبين السياسة المسئولة لتنويع مصادر السلاح (أمريكية وأوروبية وروسية وصينية) التى تمارسها بعض دول الشرق الأوسط وفى مقدمتها مصر، وبدرجات أقل الإمارات والسعودية والجزائر، وتستهدف تحقيق شىء من التوازن العسكرى فى منطقة لا تغيب عنها أبدًا الحروب والصراعات. فكلفة سباق التسلح المحموم الذى تطلقه تل أبيب وطهران هى المزيد من الأخطار والتحديات التى يتعرض لها الأمن الإقليمى والمزيد من استنزاف الطاقات الاقتصادية والسياسية فى لحظة الشرق الأوسط أولى بتوجيه طاقاته إلى إعادة البناء والإعمار وجهود التنمية المستدامة والتوازن المجتمعى. أما سياسة تنويع مصادر السلاح التى تمارسها القاهرة اليوم، وهى العاصمة صاحبة المبادرة الإقليمية الوحيدة لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل (أطلقتها مصر فى تسعينيات القرن الماضى وتعيد التأكيد عليها دوريا)، فهدفها الحيلولة دون تبلور أخطار وتحديات أمنية جديدة تجرفنا جميعًا إلى سنوات إضافية من غياب الاستقرار وفرص التنمية الضائعة.
• • •
من جهة ثالثة، لم يعد بالإمكان إنكار أنه إذا كان أمن الشرق الأوسط غير قابل للتحقق دون إيقاف التغول العسكرى لإسرائيل ووضع حد لعدوانيتها فى جوارها المباشر وغير المباشر التى تمولها تسليحًا وذخيرة ومالًا الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما من الدول الغربية وما لم تتوقف إيران عن نشر صواريخها ومسيراتها بين العراق ولبنان وفى اليمن وما لم تمتنع عن إطلاقها باتجاه إسرائيل بين الحين والآخر، فإنه، أى أمن الشرق الأوسط، غير قابل للتحقق أيضا ما لم ننتهِ كمنطقة من ثنائية الدولة وحركات اللادولة كحزب الله فى لبنان والحشد الشعبى فى العراق والحوثيين فى اليمن وقوات الدعم السريع فى السودان، ومن ثنائية الجيوش الوطنية النظامية والميليشيات والكيانات شبه العسكرية والأخيرة تتواجد فى مسارح الحروب الأهلية وتعتاش عليها وتطيل بالتبعية أمدها.
دون الانتصار إقليميًا للدولة الوطنية فى مواجهة حركات اللادولة، وهو انتصار يتأتى بالإصلاح السياسى والاقتصادى والتنمية المستدامة والشاملة وبناء التوافق المجتمعى، ودون الانتصار لاحتكار الجيوش النظامية لحق الاستخدام المشروع للقوة العسكرية فى مواجهة الميليشيات، وأيًا كانت مسمياتها، سيظل الشرق الأوسط منطقة حروب وصراعات وسباقات تسلح وأمن واستقرار غائبين.