محمود عبدالعزيز.. صانع البهجة والشجن
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 18 نوفمبر 2016 - 11:35 م
بتوقيت القاهرة
كانت لفتة رائعة ومؤثرة أن يستهل مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، فى دورته الثامنة والثلاثين، حفلَ افتتاحه مساء الثلاثاء الماضى، بتحية خاصة للفنان الكبير محمود عبدالعزيز الذى غادر عالمنا قبل أسبوع عن سبعين عاما، وقامت إدارة المهرجان بإهداء هذه الدورة إلى روح الفنان الساحر.
فقرة تكريم محمود عبدالعزيز التى استهل بها الحفل فقراته، تخللتها عرض مشاهد من أدواره وأفلامه وجُمل من حواراته، على خلفية الموسيقى التصويرية لأعماله، ثم تلتها فقرة أخرى أدت خلالها نسمة محجوب بكلمات عربية أغنية لطيفة تحية لفنانى السينما على موسيقى أغنية من فيلم «صوت الموسيقى»، وظهرت خلالها أيضا صورة محمود عبدالعزيز وجزء من الأغنية تحييه.
كان انفعال جمهور الحاضرين مع صورة «الساحر» التى توسطت الشاشة مع جملة لحنية مؤثرة من تتر مسلسل «رأفت الهجان» للراحل الموسيقار العظيم عمار الشريعى، كبيرا وهائلا، استمر التصفيق الحار والتحية الجماعية لدقائق طويلة مستمرة، الانفعال كان حقيقيا وصادقا ومعبرا عن حالة الحزن العميقة التى عاشها المصريون عقب إعلان وفاة الفنان الكبير.
ربما كانت من المرات القليلة التى توحدت فيها مشاعر الحزن لدى أغلب المصريين، فى السنوات الخمس الأخيرة بكل زخمها وزحمتها وأحداثها الصعبة، الحزن لم يكن فقط لرحيل فنان كبير ولا صاحب تاريخ فنى من الصعب أن يراكمه مبدع فى رحلة حياته، إنما كان لأسباب عاطفية وانفعالية راسخة فى «التركيبة النفسية» للمصريين.
حزنهم هنا كان على «جزء عزيز» وغال من نفوسهم وأرواحهم، على قطعة غالية من تواريخهم الشخصية وسيرة حياتهم، منذ ظهر هذا الفنان «الوسيم» على شاشة السينما فى أدواره الأولى، ثم قيامه بدور البطولة فى فيلم «حتى آخر العمر» الذى قام فيه بدور ضابط طيار تسقط طائرته أثناء عمليات حرب أكتوبر ويتعرض لإصابة بالغة تقعده، ثم تتوالى أدواره وصولا لأروع أعماله السينمائية والدرامية: «الكيف»، «العار»، «جرى الوحوش»، «الكيت كات»، «البشاير»، «رأفت الهجان»، «الساحر»، «محمود المصرى» وحتى «إبراهيم الأبيض» و«راس الغول».
أجيال عديدة (منذ منتصف السبعينيات تقريبا وحتى العام الأخير) كانت صورة محمود عبدالعزيز بالنسبة لهم «أيقونة» فنية وإبداعية خاصة ومتميزة بكل ما لعبه من أدوار، بكل ما أداه من شخصيات، بكل بسمةٍ وضحكةٍ خرجت من القلب، كانت موهبته وذكاؤه الفنى سببا فى اندفاعها وخروجها خالصة من الشوائب. كم دمعة عزيزة سالت صدقا وانفعالا لدور وطنى أداه فى مسلسل «رأفت الهجان»، أو فى «إعدام ميت»، سنوات طوال كانت «تسريحة» محمود عبدالعزيز فى رأفت الهجان هى «الموضة» السائدة، وطريقة لف الكوفية على رقبته، واستدعاء حالة الشجن العميقة التى كانت قارة رابضة فى الأعماق وراء قناع يبدو مرحا مبهجا ضاحكا مبتسما وقادرا على إشاعة البهجة والمرح فى من حوله جميعا، لكن يظل حزنه دائما، باقيا ومقيما.
تميز محمود عبدالعزيز، ربما من بين أقرانه جميعا من الفنانين الكبار، بحساسيته العالية تجاه الورق المكتوب «السيناريو والحوار»، كان ذكيا فى اختياراته وقدرته على التنويع المدهش فى الأداء وكسر الدوائر التى ربما كانت تسجنه فى فئة بعينها من الأدوار تفرضها ملامحه الشكلية، كان ذكيا للغاية بالقدر الذى جعله يعلن موهبته ويرسخ حضوره ويحافظ على نجوميته الحقيقية بالتنويع فى الأدوار التى تعددت وتنوعت ووصلت به إلى ذروة ما يمكن أن يؤديه ممثل كبير فى شخصية «الشيخ حسنى» فى فيلم «الكيت كات» للمخرج القدير داود عبدالسيد.
كسر محمود عبدالعزيز بأدائه هذه الشخصية فى «الكيت كات» النظرية الزائفة التى تفصل بين «أفلام المهرجانات» و«أفلام الشباك»، كان النجاح التجارى لـ«الكيت كات» ساحقا وكبيرا ورائعا وعلى كل المستويات. عقب إعلان وفاة الفنان الكبير، كتب صديقى الناقد المرموق محمود عبدالشكور يودعه، وكان يسميه «زوربا المصرى»، كتب فى وداعه «عندما تكون الشخصية عاشقة للحياة، ساخرة، ولكنها متأملة وعميقة، وذات ملامح مصرية تجمع بين الفهلوة وخفة الظل والغلب والبساطة، لا أحد ينافس محمود عبدالعزيز أبدا فى الأداء. هكذا اكتشف نفسه وقدراته، وهكذا قدم تنويعات لا تنتهى على «زوربا المصرى»، فلم نتوقف أبدا عن الدهشة حتى دوره الأخير فى «راس الغول». المشخصاتى المدهش الذى أنسانا وسامته، فلم نعد نتذكر سوى شخصياته».
رحم الله محمود عبدالعزيز، وأسكنه فسيح جناته، وجازاه خيرا بقدر ما أسعد وأمتع وأبهج الملايين من عشاق فنه..