بين حربين عالميتين وثورتين مصريتين
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 18 نوفمبر 2018 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
وسط صخب الاحتفالات التى جرت فى باريس بمئوية الحرب العالمية الأولى والتغطيات الصحفية الموسعة التى صاحبتها لم نلتفت بما هو واجب، ولا بأى قدر، إلى ما خلفته فى بلادنا من آثار وتداعيات عميقة وممتدة حتى اليوم.
لم تكن مصر طرفا فى المواجهات العسكرية، أو أحد ميادينها، ولا تجرعت الآلام الهائلة التى شهدتها تقتيلا وتخريبا، لكنها بدت مع عالمها العربى ميدانا سياسيا لصفقات مميتة استبقت نهايتها فى نوفمبر (1918).
جرى العمل على تقسيم العالم العربى وتفكيك قدراته ومنع أية فرصة ممكنة لتوحيده ـ اتفاقية «سايكس بيكو» (1916).
وجرى العمل على بناء وطن قومى لليهود فى فلسطين يتغول على حقوق أهلها ويعزل مصر عن المشرق العربى ـ وعد وزير الخارجية البريطانى «آرثر جيمس بلفور» (1917).
كانت الإمبراطورية العثمانية توشك على السقوط النهائى والصفقات الكبرى تسعى ـ قبل نهاية الحرب ـ لوراثة الرجل المريض.
كان العالم العربى مصيره ومستقبله موضوع الميراث.
دون أن تكون مصر على دراية بما يخطط فى الكواليس الدبلوماسية الدولية لمستقبل المنطقة ـ اندلعت فيها بعد أربعة أشهر من نهاية الحرب العالمية الأولى ثورة شعبية وضعت قضية جلاء قوات الاحتلال البريطانية على مسار تاريخى جديد.
كانت الحركة الوطنية بزعامة «مصطفى كامل» تمهيدا تاريخيا لا شك فيه لثورة (١٩١٩)، بزعامة «سعد زغلول».
تلخص عبارة بليغة لـ«مصطفى كامل» «من يفرط فى حقوق بلاده ولو لمرة واحدة فى حياته يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان»، روحا جديدة ولدت من تحت ركام هزيمة الثورة العرابية التى أفضت إلى الاحتلال البريطانى لمصر عام (1882)، غير أن فعل ثورة (1919) جاء استجابة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الأولى.
لا كانت مصادفة سياسة أن يطلب المصريون جلاء قوات الاحتلال البريطانية بأثر مبدأ حق تقرير المصير الذى أعلنه الرئيس الأمريكى «وودرو ويلسون»، أو أن يسعوا للمشاركة فى مؤتمر الصلح الدولى بباريس.
ولا كانت مصادفة توقيت أن يقود «سعد زغلول» بعد يومين من انتهاء الحرب وفدا قابل المعتمد البريطانى للحصول على تصريح بالسفر جوبه بالرفض متسائلا عمن فوضهم التفاوض باسم المصريين.
هكذا نشأت فكرة التوكيلات الشعبية ونشأ حزب «الوفد».
لم يكن تعبير الاستقلال سائدا قبل ثورة (1919) حيث هيمنت الفكرة «العثمانية» على الخطاب السياسى المطالب بالجلاء.
بتقوض الإمبراطورية العثمانية انفسح المجال لشعار «مصر للمصريين»، أو أن تكون دولة مستقلة لا ولاية تتبع الباب العالى.
لا يليق بأى منطق تاريخى أن يقال إن «سعد زغلول» سرق الثورة من الحزب الوطنى حزب «مصطفى كامل» وخليفته «محمد فريد».
الأدعى أن نناقش لماذا أخفق الحزب الوطنى فى قيادة مصر ـ بعد «مصطفى كامل» ـ إلى الثورة التى كانت بشائرها فى الأفق؟
ـ هل لأن «محمد فريد» خليفة «مصطفى كامل»، وهو زعيم وطنى مستنير وقيمته الأساسية فى قوته الأخلاقية، قد غادر إلى ألمانيا هروبا من حملات الاعتقال، أم لأن الحزب الوطنى نفسه لم يكن مهيأ بطبيعة أفكاره وبرامجه، لأن يقود ثورة تبلورت دواعيها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ونداءات حق تقرير المصير وتقوض الإمبراطورية العثمانية؟!
ثورة «يوليو» تعرضت لاتهام من نفس النوع بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من الإخوان المسلمين، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية «سعد زغلول» وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخى فى سياق مفاهيم العصر، فأغلب الانتقادات التى تعرض لها تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها، وقد تمكن بقدراته السياسية والخطابية أن يعبر عن الثورة، وأن يكون رمزها الأكبر.
عندما أخفقت ثورة (١٩١٩) فى أن تحقق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور، فالأول أجهض عمليا والثانى جرى الانقلاب عليه، بدأت مصر تنتفض من جديد.
فى عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطانى بأن مصر لا يصلح لها دستور (١٩٢٣) ولا دستور (١٩٣٠).
فى هذه المظاهرات تواصل عطاء الدم المصرى.
وفى عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى، من أجل مطلب الاستقلال، أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيدا فى ميدان «الإسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب فى هذه الموقعة (١٢١) جريحا. بعد أيام فى الإسكندرية سقط (٢٨) شهيدا و(٣٤٢) جريحا.. المدينة ذاتها قدمت شهداء آخرين فى ثورة يناير.
كانت تلك التضحيات إيذانا بميلاد جيل جديد، وهو واحد من أهم الأجيال فى تاريخ مصر المعاصرة، حمل السلاح فى منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال، ساهم فى تطوير الخريطة الفكرية والسياسية، وقام بثورة جديدة فى «يوليو» (١٩٥٢) كان فى طليعتها هذه المرة تنظيم «الضباط الأحرار»، وهى واحدة من أعظم الثورات المصرية وأبعدها تأثيرا.
جاء «الضباط الأحرار» من داخل سياق جيل (1946) وأفضت حرب فلسطين (1948) إلى إعلان القطيعة مع النظام الملكى بكل مقوماته وقصوره.
أخذ جيل (١٩٤٦) وقته فى إنضاج أفكاره وخياراته، التى تمردت على السياسات التقليدية، بعد أن وصلت إلى حائط مسدود فى طلب الاستقلال بالمفاوضات.
شاعت داخله التوجهات الاشتراكية، وخرجت المرأة بصورة غير مألوفة للعمل الوطنى، وبدا أن مصر على موعد مع تغيير يعصف بقواعد اللعبة المستهلكة ـ وهو ما حدث بعد ست سنوات فى «يوليو» (١٩٥٢).
كانت ثورة «يوليو» بنت الحرب العالمية الثانية ونداءات الاستقلال الوطنى والعدل الاجتماعى بذات قدر ما كانت ثورة (1919) بنت الحرب العالمية الأولى ونداءات الاستقلال والدستور.
لا يمكن قراءة التاريخ المصرى وأحداثه الكبرى بعيدا عما يحدث فى العالم من صراعات على القوة والنفوذ.
لتفاعلات الداخل كلمتها الرئيسية غير أنها تأخذ مداها عندما تتغير البيئة الدولية، كأنها طلقة فى الهواء تنبئ بتغيير كبير مقبل.
هذه حقيقة تاريخية تثبتها تجربة حربين عالميتين وثورتين مصريتين.