الزيارة المشئومة
محمد عصمت
آخر تحديث:
الإثنين 18 نوفمبر 2019 - 11:50 م
بتوقيت القاهرة
تمر اليوم «19 نوفمبر» الذكرى الـ 42 لزيارة الرئيس أنور السادات الشهيرة للقدس، التى أسهمت بالتأكيد فى عودة سيناء لحضن الوطن، ولكنها فى نفس الوقت أسست فصلا جديدا من الكوارث والمحن التى نعانى منها ليس فى مصر فقط، ولكن فى كل العالم العربى.
لم تأتِ الزيارة من فراغ أو بشكل مفاجئ كما يرى البعض، فقد كانت امتدادا منطقيا لتوجهات السادات المريبة، التى سمح من خلالها للعديد من نجوم نظامه بـ«سرقة» نتائج المعجزة العسكرية التى حققها الجيش المصرى فى اكتوبر 73، حيث حول هؤلاء النجوم دماء الشهداء إلى ودائع فى البنوك، ثم بعد ذلك إلى أسهم وسندات فى البورصة، ثم حسابات سرية فى مصارف سويسرا وأمريكا، فى حين انهارت بمرور الوقت كل الخدمات التى كانت تقدمها الدولة لملايين المصريين الفقراء ومحدودى الدخل الذين خاض أبناؤهم هذه الحرب وسطروا فيها بطولات خارقة.
كان نظام السادات يوفر بيئة مواتية لارتكاب هذه السرقات، أهمها هذا التحول العشوائى للاقتصاد المصرى من التخطيط المركزى الناصرى ــ رغم المآخذ الكثيرة على تطبيقه ــ إلى مفاهيم السوق، والأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادى الذى وصفه الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين بأنه انفتاح سداح مداح، مع تزامن كل هذا مع إصرار السادات على ممارسة ديمقراطية مشوهة، وإطلاق قبضة الأمن لتسيطر على الحياة السياسية، وضرب أى حركة معارضة ترفض أفكاره أو سياساته.
فى هذه الزيارة تصرف السادات وكأنه «صاحب البلد» وليس «رئيس البلد»، فتنازل عن كل رصيده التفاوضى واعترف بشرعية وجود إسرائيل، وتبادل معها السفراء، بدون أن يحصل فى المقابل على الثمن المناسب، حيث أعطته إسرائيل سيناء منزوعة السلاح ثم تلاعبت به وبالفلسطينيين وبحقوقهم المشروعة، واعتدت على منشآت العراق النووية، وغزت لبنان حتى وصلت إلى العاصمة بيروت، ورفضت إرجاع الجولان لسوريا، حتى ضمتها رسميا لأراضيها، كما رفضت مجرد التفاوض حول حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة، بل واعتبرت القدس عاصمة أبدية لليهود، وتسعى حاليا لطرد ما تبقى من الفلسطينيين إلى الدول المجاورة لها، بتأييد مطلق من أمريكا التى قال السادات إن 99 % من أوراق اللعبة السياسية فى المنطقة فى يدها، وأن حرب أكتوبر هى آخر الحروب مع إسرائيل!
كل حسابات السادات ورهاناته كانت خاطئة تماما، الرجل الذى صدق ما كان يقوله الإعلام الأمريكى عنه بأنه «نبى هذا الزمان»، وأنه «فرعون مصر الأخير»، كان فى قرارة نفسه مبهورا بكل ما هو غربى، لكنه وهو الأهم كان يعبر عن الجناح الأكثر يمينية فى نظام عبدالناصر الذى رحل زعيمه وترك وراءه هزائم عسكرية مهينة، وديكتاتورية لم يكن لها أن تكون مقبولة شعبيا بدونه، ثم أزمات اقتصادية هيكلية، وصراعات على السلطة والنفوذ.
كان أمام السادات بدائل وطنية مختلفة عن كل سياساته التى اتبعها، كان يمكنه استثمار ارباح الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع العام فى البحوث التكنولوجية لرفع جودة وكفاءة منتجاتها، ولكنه بدلا من ذلك توجه لبيعها وخصخصتها، كان يمكنه اتخاذ اجراءات من شأنها مراعاة التوازن فى الاجور فى مستوياتها العليا والدنيا، لكنه فضل مساعدة الرأسمالى الصغير ليكبر حتى يصبح قطا سمينا، كما كان يمكنه أن يصبر قليلا على إسرائيل، وكانت هى التى ستتسول منه السلام.
ربما كانت زيارة السادات للقدس هى الخطوة الأكثر انحطاطا فى كل تاريخنا السياسى الحديث، لكنها فى جوهرها تعبير صادق عن الكوارث التى يمكن أن يؤدى إليها غياب الحريات السياسية وتداول السلطة واحترام الدستور ودولة القانون.