دفاعا عن ضرائب البورصة!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الخميس 18 نوفمبر 2021 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
فى اقتصاد يئن من عجز مزمن فى موازنته العامة، لا مكان للاستثناءات القطاعية أو الفئوية من الضرائب. وفى اقتصاد يكافح جهازه الضريبى لزيادة الحصيلة الضريبية من مصادرها المختلفة، لا بديل عن التوسع فى الضرائب على الثروات والتصاعد فى معدلات الضرائب على الأرباح الرأسمالية. وفى اقتصاد يحتاج لتطوير سوقه المالى، هل من المقبول أو المجدى اقتصاديا المقايضة بين سياسات تطوير هذه السوق وبين فرض ضرائب على الأرباح المولدة فيها؟ الفقرات التالية ستحاول الإجابة على هذا السؤال لتدلو بدلوها فى هذا الموضوع الشائك.
•••
بادئ ذى بدء، لا خلاف حول أحقية البورصة المصرية فى دعم ومساندة السياسات الحكومية الجادة، ما دامت تقوم بدورها الأساسى كقناة لتعبئة المدخرات وإتاحتها لأوجه الاستثمار المختلفة. لكنّ خلافا كبيرا يمكن أن ينشب عند مناقشة جدوى الضريبة الرأسمالية على الأرباح المولدة من التداول والمضاربة داخل البورصة. فالفريق الرافض لهذه الضريبة، يرى أنه بينما تشتد حاجة هذه السوق للدعم الحكومى لزيادة الإصدارات ونمو التداولات ولتوسيع قاعدة المستثمرين، فلا مجال أبدا لفرض أى أعباء ضريبية على أنشطة الاستثمار أو المضاربة فى الأسهم والسندات. وهو بهذا الرفض يدعى، ضمنا، أن هذه الضريبة ستكبح الإصدارات الجديدة للأوراق المالية، وستنزل بقيم المتداول منها للحدود الدنيا، وستطرد العديد من المستثمرين ــ وخصوصا صغارهم ــ خارج هذه السوق. أى أن هذه الضريبة ستحول دون النهوض بالبورصة كأحد المكونات الهامة لسوق المال المصرية. أما الفريق المدافع عن هذا النوع من الضرائب، وإن كان يوافق الفريق الأول فى الغايات، لكنه يختلف معه فى التقدير ويعتقد أن لهذه الضريبة عوائد اقتصادية تتفوق على ما تخلقه من أعباء، ويرفض أن ينسب إليها سبب تعطيل البورصة عن التطور والنهوض.
نحن إذن أمام فريقين على طرفى نقيض، فإلى أيهما نميل ونؤازر؟!
إن المعضلة الأساسية هنا، ونحن نقلب النظر فى حجج كل فريق، أن هذه الضريبة الرأسمالية لم توضع بعد موضع الاختبار العملى؛ لكونها أُجّلت ثلاث مرات متتالية منذ بداية فرضها تشريعيا فى العام 2014. وطالما الأمر كذلك، فإن كل ما يساق من حجج ومبررات ما هو إلا محاولات استشرافية لآثارها المتوقعة على البورصة المصرية حال تطبيقها. وللخروج من هذه المعضلة، يمكننا تقدير وقياس الجدوى المتوقعة لهذه الضريبة بوضعها فى ميزان تنموى منضبط، لنحدد بذلك أى الفريقين أحق بالمؤازرة.
•••
لدى الاقتصاد التنموى ثلاثة معايير لتقييم الجدوى الاقتصادية للضرائب على الأرباح الرأسمالية؛ أولها معيار الكفاءة الاقتصادية. وثانيها معيار العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وثالثها معيار الاستدامة المالية.
وانطلاقا من معيار الكفاءة الاقتصادية، سيكون من المجدى تماما فرض ضريبة رأسمالية عندما يكون الاقتصاد فى حاجة لزيادة جهده الضريبى، وبشرط أن يتوافر فى ممولها ووعائها ثلاث سمات أساسية. إذ يتعين أن يحصل ممولها على منافع واضحة من بيئة الأعمال المحلية، وأن تكون لديه المقدرة على تحمل عبئها، وأن يبتعد معدلها عن المستوى المثبط لنشاطه الاقتصادى. والحال أن الضريبة الرأسمالية محل الجدل هنا تجتاز معيار الكفاءة الاقتصادية بامتياز. ذلك أن المستثمرين والمضاربين، المحليين والأجانب، فى سوق الأوراق المالية تتحقق لهم منافع واضحة من الإطار المؤسسى الذى توفره البورصة المصرية والذى يتاح فى بيئة الأعمال المصرية عموما. وما دامت هذه الضريبة لا تُفرض إلا عندما تتحقق أرباح رأسمالية ناتجة من فروق أسعار البيع والشراء للأوراق المالية، فهى بالتالى تضمن أن يكون ممولها قادر على الدفع. وأهم من ذلك أن محدودية معدلها ــ يبلغ حتى كتابة هذه السطور 10% ــ لا يجوز معه الادعاء بأنه قد يثبط نشاط المضاربة فى البورصة، وخصوصا إذا ما قورن بالمعدلات الضريبية المفروضة على الأنشطة الاقتصادية خارجها. إذ فى هذه الأنشطة، غالبا ما يزيد معدل الضرائب عن 20% فى المتوسط، ولا يدعى أحد أنه معدل مثبط لتلك الأنشطة.
على أن معيار العدالة الاقتصادية والاجتماعية يقدم للفريق المدافع عن فرض هذه الضريبة حجة جديدة إلى حجتهم التى اكتسبوها من معيار الكفاءة الاقتصادية. فمقتضيات العدالة من المنظور الاقتصادى أن كل الأنشطة الربحية تمثل وعاء محتملا للضرائب وتقف على قدم المساواة أمام سيف الضريبة. ولا يستحق أى من هذه الأنشطة حافزا ضريبيا ــ إما استثناءً أو إعفاءً أو تخفيضًا ــ إلا بقدر دوره المرجو والمأمول فى دعم التنمية. كما تعنى العدالة الاجتماعية أن معدل الضرائب يُحدَّد على أساس مكانة الممولين فى البناء الاجتماعى، وأن يتحيز النظام الضريبى لصالح أصحاب الدخول المنخفضة. وبذلك، فإن فرض ضريبة رأسمالية على أرباح البورصة عادل اقتصاديا، لمحدودية الدور التنموى الذى يلعبه نشاط المضاربة الذى يغلب على تعاملات البورصة المصرية، وعادل اجتماعيا لخروج غالبية ممولى هذه الضريبة من الفئة الاجتماعية المستحقة للإعفاء. فهم بكل تأكيد ليسوا أقل حالا من أولئك الذين يمولون ضريبة القيمة المضافة التى تفرض على أنشطة الاستهلاك بمعدل 14% ولا يستثنى منها أحد!
وتحت وطأة العجز المزمن فى الموازنة المصرية، فإن فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية فى البورصة يمثل خطوة يجب قطعها على طريق الاستدامة المالية لهذه الموازنة. فبغض النظر عن حجمها المتوقع فى بداية التطبيق، فإن حصيلة هذه الضريبة ستضيف للإيرادات العامة رافدا جديدا يعينها على تغطية النفقات العامة المتزايدة، دون الحاجة لمزيد من ضغط الإنفاق الاجتماعى المصرى، أو للتوسع المطرد فى الاستدانة الداخلية والخارجية. وبذلك، تجتاز هذه الضريبة معيار الاستدامة المالية بنجاح.
•••
بقدر كبير من الموضوعية، يحق لنا الآن أن نضم صوتنا لصوت المدافعين عن فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية فى البورصة المصرية. فلقد اجتازت هذه الضريبة بنجاح معايير الجدوى الاقتصادية لفرضها، وتمكنت من الصمود أمام حجج الرافضين لها. لكن العجيب حقا هو أن ينشأ من الأساس رفضا لهذا النوع من الضرائب. فما بالنا أننا إزاء صخب شديد يرفض ويقاوم، وفى أحسن الأحوال يدعو لمزيد من التأجيل، لفرض هذه الضريبة. فعجبا لادعاء البعض رفض هذه الضريبة لكونها تحدث ازدواجا ضريبيا لمموليها، بافتراض أن المضارب هو مساهم سبق وأن تحمل ضريبة على أرباح شركته. وهذا القول مردود عليه بأن الضريبة محل الجدل تفرض على الأرباح الناتجة من المضاربة على أسعار هذه الأوراق المالية وليس على مجرد حيازتها. وطالما أن الازدواج الضريبى لا يحدث إلا إذا تكررت الضريبة على عائد ذات النشاط، فهذا أبعد ما يكون عن أنشطة مضاربات مالية ما زالت إلى الآن بعيدة عن سيف الضريبة المصرية.
لكن أعجب ما قيل فى مقاومة ورفض فرض هذه الضريبة، أنه من الضرورى أن يتوافر عنصر الرضى لدى مموليها. وللمرء أن تأخذه الدهشة كل مأخذ وهو يتأمل من منظوره التنموى مثل هذه المقولات الواهية. فأى ضريبة تلك التى تحوز على رضى مموليها؟! وأى ضريبة تلك التى تحتاج لموافقة مسبقة من هؤلاء الممولين؟! إن الضريبة، بالتعريف، هى عبء يُستأدى من الممول ــ طوعا أو كرها ــ كمساهمة منه فى تحمل الأعباء العامة والاجتماعية فى الاقتصاد الوطنى. ولو تخيلنا أن الباب قد فُتح أمام الممولين لرفض تحمل العبء الضريبى، فلن يستقيم للموازنة العامة إيرادا، ولن تتمكن الحكومة من إنتاج أيا من خدماتها العامة والاجتماعية، بل وستصاب الاستدامة المالية فى مقتل!
ورغم كل ما لدى المرء من عجب ودهشة وألم وهو يتابع هذا الموضوع، فإن هناك تفسيرا منطقيا لمقاومة فرض هذه الضريبة الرأسمالية على أرباح البورصة، ومقاومة فرض الضرائب الرأسمالية عموما. إذ تنشأ هذه المقاومة لأسباب مفهومة وواضحة. فالمكانة الاقتصادية المميزة لممولى الضرائب الرأسمالية عموما، ووقعهم أعلى السلم الاجتماعى، ونسبتهم المحدودة فى المجتمع، ناهيك عن قدرتهم الملموسة على تنظيم صفوفهم والتكتل وتكوين جماعات ضغط؛ تفسر كلها كل هذا الجدل المثار حول فرض الضرائب على أرباح البورصة. ثم إن قدرة هذا التكتل الاقتصادى على النفاذ لوسائل الإعلام المختلفة واضحة لكل ذى عينين، وتفسر حالة الصخب التى نراها أو نسمعها أو نقرأ عنها بإلحاح مستمر رفضا لهذه الضرائب.
•••
للتأكيد على حاجة البورصة المصرية للدعم والمساندة، لنتأمل سويا مكانتها فى البناء الاقتصادى المصرى. ولنحدد هذه المكانة، يكفى أن ننظر لقيمة تداولات الأسهم المقيدة بها منسوبة للناتج المحلى الإجمالى، ثم نقارنها بأحوال البورصات الدولية. فوفق بيانات البنك الدولى، فإن قيمة الأسهم المتداولة فى البورصة المصرية فى نهاية العام 2020 بلغت بالكاد نسبة 4.4% من الناتج المحلى الإجمالى. فى حين أن نفس هذه النسبة كانت حوالى 47% فى الاقتصاد الألمانى، وحوالى 69% فى الاقتصاد السعودى، ونحو 318% فى الاقتصاد الكورى الجنوبى. وتختصر هذه النسبة عدة حقائق حول الأداء الاقتصادى للبورصة المصرية. فانخفاض أحجام وقيم التداولات، وقلة عدد الشركات المقيدة، والجاذبية المحدودة لرءوس الأموال الأجنبية، هى أبرز هذه الحقائق، وهو ما يستدعى حقا المقاومة والرفض.
وعموما، وإذا كان المقام لم يعد يتسع لعرض كامل رؤيتنا للنهوض بدور البورصة ومكانتها، فلا مانع من التأكيد سريعا على أن مزيدا من التحديث والتطوير للجوانب التنظيمية داخلها لن يفيد قيد أنملة طالما ظلت العوائق رابضة خارجها، لتحول دون التوسع فى عمليات الإصدار الجديدة وجذب المدخرات المحلية والأجنبية. فالمشكلة الجوهرية للبورصة المصرية كانت، وما زالت، خارج صالاتها وأروقتها. وإذا كان التصدى لهذه المشكلة يحتاج لتكامل وتضافر العديد من السياسات والجهود؛ فاعتقادنا جازمٌ أنه ليس من بين ذلك محاباة المضاربين فيها بالإعفاءات السخية. فالمقايضة بين دعم هذه السوق أو التنازل عن حقوق الموازنة العامة ليست من التنمية الاقتصادية فى شيء؛ لذا وجب التنويه والتذكير!