مشاهد (قابلة للتحقق) من اللامركزية
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 18 ديسمبر 2010 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
هناك جدل حول تعديل القانون الخاص بالمحليات فى مصر، البعض يريدونها مؤسسات قادرة على مساءلة المسئولين التنفيذيين على المستوى المحلى، وآخرون يرون أن الفساد ضارب فى جذور النظام المحلى، وأى صلاحيات إضافية تنتقل إليه سوف تؤدى إلى فساد محقق. لا أود أن أنخرط فى هذا الجدل، لأن الأمر برمته يرتبط بالمنظومة التى تحكم النظرة إلى المواطن هل هو مواطن مشارك أم خامل سلبى؟. ومادام المواطن بعيدا عن الشأن المحلى، لن يكون هناك خير فى المجالس المحلية. هذه هى تجربة الدول التى أخذت باللامركزية على نطاق واسع مثل الدنمارك، التى ترى أن مركز السياسات العامة هو النظام المحلى، وليست الحكومة المركزية، والمواطن هو المبادر، والمشارك، والرقيب.
(1)
زرت الدنمارك ليومين فقط بدعوة من معهد الحوار الدنماركى المصرى بجريدة الأهرام للإطلاع على تجارب مشاركة المواطن فى النظام المحلى. من تجربة لأخرى، ومن بلدية لأخرى، مشروعات مختلفة، وتجارب متعددة تشعر من خلالها أن المواطن حاضر، يشارك فى كل دقائق الحياة. فى كل المقابلات التى أجريتها كنت أبحث عن أفكار قابلة للتحقق فى المجتمع المصرى، ليس بمنطق النقل الحرفى الأعمى لتجارب الآخرين، ولكن من خلال التفكير فيما يمكن أن نقوم به فى واقع مصرى أقل ما يوصف به أن المصريين لا يشاركون فى شئونه. فى الانتخابات المحلية فى الدنمارك لا تقل نسبة التصويت عن 70%، أما فى الحالة المصرية فإن نسبة التصويت فى الانتخابات المحلية لم تتعد الــ15% فى أفضل التقديرات تفاؤلا. هذه فى ذاتها دلالة لا تخطئها عين.
النظام المحلى فى الدنمارك له جذور بعيدة، وخضع لتطوير مستمر على الأقل مرتين فى النصف قرن الأخير، فى عامى 1970 و2007، لا يتسع المقام للحديث عنه، فقط نقول أن الغرض من وراء التطوير المستمر هو رفع كفاءة المحليات، اختصارها عددا، وتركيزها رأسيا، وتفعيل مشاركة المواطن فيها، وتمكينها على تقديم خدمات أفضل للمواطن.
(2)
فى بلدية «هولبك» «Holbaek» النظام المحلى غير منبت الصلة عن منظمات المجتمع المدنى. يتشكل المجلس المحلى من 23 عضوا، سبعة منهم يمثلون أحزابا سياسية، والأعضاء الستة عشرة الباقية يمثلون منظمات المجتمع المدنى المختلفة، وتقوم الأخيرة باختيارهم فى عضوية المجلس. ينبثق عن المجلس لجان عديدة، والمواطنون يشاركون فى عضوية اللجان بالرأى، والفكرة، والنقد. هناك اجتماعات عامة على مستوى البلدية يشارك فيها أربعمائة شخص، وأخرى يصل المشاركون فيها إلى ثمانمائة شخص. الكل يشارك. تلتقى مجموعة من المواطنين قرب محطة الأتوبيس للحديث عن مشكلات النقل، وأخرى تجتمع فى مكان وفره لها أحد المواطنين، وثالثة تختار يوما لتنظيف الشارع. ويحترم المجلس المحلى المواطنين حيث يخصص لهم الساعة الأولى فى اجتماعه الشهرى للحضور، والحديث، وإبداء الرأى، وتسجيل الاعتراض. وبرغم أن بلدية كوبنهاجن تتولى شئون المرافق العامة فى البلدية الأصغر «هولبك» «Holbaek» إلا أنه ليس فى إمكانها القيام بأى مشروع أو مبادرة ما لم تستطلع أولا أراء سكان هذه البلدية، وتتعرف على وجهة نظرهم. وعادة ما يكون الاتجاه هو العكس أن يأتى الاقتراح من المواطنين، ثم تتفاعل بلدية كوبنهاجن معه.
فى بلدية «أوتشى» «Eishoj» يوجد نادى للشباب بداخله مدرسة لتعليم الديمقراطية. القصة تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث حرص المجتمع الدنماركى على ايجاد مدارس لتعليم الشباب الديمقراطية حتى لا ينساقوا وراء الأفكار النازية والفاشية مرة أخرى التى تسببت فى الحرب والدمار فى أوربا. يضم مجلس إدارة النادى تسعة أشخاص، من بينهم اثنان من الشباب، وبقية الأعضاء يمثلون أحزاب ومنظمات المجتمع المدنى، الخ. وإذا كانت انتخابات مجلس الإدارة تجرى كل عامين، فإن المقعدين المخصصين للشباب ينتخبان سنويا لضمان مشاركة أفضل من الشباب. وتعد انتخابات مجلس إدارة النادى فرصة مهمة لتعميق الديمقراطية، حيث يتقدم المرشحون ببرامج تناقش بشكل علنى، وتحدث مساجلات بين المرشحين إلى أن يختار الناخبون أعضاء مجلس الإدارة بشكل سلمى ديمقراطى فى أجواء تنافسية.
فى بلدية «هوسمان» «Husman» ظاهرة تبدو غريبة. طريق عام يفصل بين شطرى المنطقة، أحدهما يحتضن عددا أكبر من الدنماركين من أصول أثنية أخرى، والشطر الثانى لا تظهر فيه هذه الظاهرة، وما بين الاثنين عوامل تمايز فى الواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى. المطلوب هو إعادة التواصل والحوار بين الجانبين وذلك حتى لا يصبح الطريق الفاصل بين الجانبين حائطا اجتماعيا يحول دون التفاعل والتلاقى بين سكان المنطقة الواحدة.
أطلقت البلدية مشروعا يقوم على إعادة التواصل بين المواطنين فى صورة أنشطة اجتماعية، وثقافية، واقتصادية. وأخذ المشروع على عاتقه أن يوفر فرص «تدريب وإكساب مهارات» للراغبين فى العمل، ووضعهم على اتصال مع أصحاب الأعمال حيث تصل البطالة إلى 50% ممن هم فى سن العمل مشكلة. وبالفعل أستطاع المشروع أن يجمع شتات المنطقتين فى جملة من الأنشطة المشتركة التى طالت تخطيط البلدية ذاته من حيث المرور، وإنشاء حديقة، الخ. وأفضل ما فى المشروع هو القدرة التى تحلى بها القائمون عليه فى تعبئة الناس، أى المستفيدين من خلال البريد الالكترونى، ونشرة صحفية، وورش عمل، والمرور فى مجموعات تطرق الأبواب لشرح أهداف المشروع على المواطنين المحليين.
(3)
لم أشأ أن أقدم تعريفا للنظام المحلى فى الدنمارك، وأكتفيت فقط بطرح مشاهدات قابلة للتحقق فى السياق المصرى. ولكن حتى تتحقق يجب أن تتخلص الحكومة من نظرتها السلبية للمواطن، وتنظر إلى منظمات المجتمع المدنى بوصفها شريكا حقيقيا لها، وليست منظمات معارضة. الدرس المستفاد من التجارب أعلاه أن المجتمع بحاجة إلى يعمل معا، وتصبح مؤسساته جميعا فى حالة شراكة وتفاعل.
فى المجتمع المصرى يحدث العكس. هناك رغبة فى أن تعمل مؤسسات المجتمع منفردة. المدارس تتبع وزارة التعليم وليس لها أن تتصل بمنظمات المجتمع المدنى، والمجلس المحلى فى ولاية وزارة الإدارة المحلية، وأجهزة المحافظة، والجمعيات الأهلية تقع تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعى، والأحزاب لها نظام آخر، والنقابات تتوزع ما بين مهنية وعمالية. الكل منكفئ على شئونه، ولا أحد يتفاعل مع الآخر إلا فى حدود ما تسمح به الدولة، وأجهزتها الأمنية. النتيجة أن المواطن غائب، ومهما حاولنا تفعيل النظام المحلى فلن نفلح مادام المواطن بعيد عنه، ومؤسسات المجتمع فى حالة تباعد. إذا كانت الحكومة لا تثق فى عمل المؤسسات مع بعضها بعضا، فلماذا لا تطلق برامج تحت إشرافها تحقق هذه الغاية؟