الطائفية السياسية والتعدد الدينى فى لبنان
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 18 ديسمبر 2011 - 12:50 م
بتوقيت القاهرة
عندما حقق لبنان استقلاله عن فرنسا فى عام 1943، وضع دستورا نصّ على اعتماد الطائفية نظاما مؤقتا. ولكن هذا المؤقت استمر حتى الآن برغم المطالبة بإعادة النظر فيه. لم يستطع اتفاق الطائف 1989 الغاءه، بل لعله أقر استمراره «المؤقت». وفى الوقت الذى بدأت تتسلل الطائفية إلى أكثر من دولة عربية خاصة العراق، ترتفع فى لبنان الدعوات لإلغاء الطائفية ولكن دون جدوى. غير ان هذه الدعوات تعكس ظاهرة صحية وهى الاعتراف بأن الطائفية حالة استثنائية يمكن تجاوزها. ولكن كيف؟.
تتطلب معالجة موضوع الطائفية والتعدد الدينى والمذهبى فى لبنان، التذكير بأمرين شكليين، ولكنهما مهمان.
الأمر الأول هو ان الغاء الطائفية أمر مستحيل. لكن الاستغناء عن الطائفية أمر ممكن. وهناك فرق كبير بين الإلغاء والاستغناء. يحمل الإلغاء صفة القسرية والفرض. والمجتمع المتعدد لا يتحمل هذا الاسلوب من التغيير. وفى لبنان تحديدا حيث اعتمدت صيغة التوافق، فان اعتماد صيغة الإلغاء يتناقض مع روح الوفاق ومع متطلبات العمل المشترك لاعادة تحديد ورسم صورة النظام السياسى.
أما الاستغناء فانه يعكس إيمانا مشتركا وإرادة مشتركة بالتغيير. وهو يتم عبر مسار تغييرى اجتماعى ــ تربوى ــ ثقافى ــ سياسى، وليس بقرار أو مرسوم أو قانون تسقطه السلطة على المجتمع.
أما الأمر الثانى فهو ان لبنان ليس الدولة الوحيدة فى العالم التى تعايشت سلبا أو إيجابا مع نظام طائفى بصيغة ما. فالتاريخ عرف امبراطوريات تمتعت بتعدد دينى وعنصرى. ورعت فى هذا التعدد أنظمة لحفظ حقوق الأقليات لديها أو لاحترام خصوصياتها ( كالامبراطوريات البريطانية والهنغارية والنمساوية والروسية والعثمانية ). كما عرف التاريخ دولا اعتمدت أشكالا من الأنظمة الطائفية، بشكل أو بآخر، مثل بلجيكا والنرويج وإيطاليا وبولندة واسبانيا وتشيكوسلوفاكيا (قبل انشطارها إلى دولتين).
كان هناك نظام تعددى فى بريطانيا الانكليكانية يتعلق بالإيرلنديين الكاثوليك (1850ــ 1921)
وكان هناك نظام تعددى فى كل من النرويج والسويد يتعلق بالأقليات الاثنية (1850 ــ 1940)
وكان هناك نظام تعددى فى فنلندة تحت الاحتلال الروسى (1850 ــ 1917).
ولا يزال النظام التعددى ــ اللغوى مستمرا منذ عام 1940 حتى اليوم فى بلجيكا.
وعرفت بروسيا نظاما تعدديا عنصريا يتعلق بالأقليات (1860ــ 1914).
وعرفت بولندة أنظمة مماثلة فى ظل كل من الاحتلالات النمساوية والروسية والألمانية (1850-1918).
ثم وضعت نظاما خاصا بالأقليات فيها (1918-1939).
وتمتعت المدارس الألمانية فى تشيكوسلوفاكيا بنظام خاص (1918ــ 1938).
واعتمدت إيطاليا نظاما طائفيا للأقليات فيها (1860ــ 1940).
كما اعتمدت اسبانيا نظاما مماثلا (1850ــ 1940).
وكذلك البوسنة (1850ــ 1918). وهى تعيش اليوم أيضا نظاما طائفيا يتوزع الرئاسات والصلاحيات بين المسلمين البوسنيين والأرثوذكس الصرب، والكاثوليك الكروات (اتفاق دايتون).
●●●
نستطيع أن نتعلم من التجارب التى مرت بها دول كثيرة فى الشرق والغرب للتعامل مع النظام الطائفى فى لبنان تطويرا وتغييرا حتى نصل إلى حد الاستغناء من دون أى مسّ بالتعدد الدينى. ولعل أهم مدخل لذلك هو ادراك الحقيقة التالية، وهى أن ثمة علاقة وطيدة بين الشعور بالأمان الاجتماعى والاستغناء عن الطائفية. الأمان يسمو على الأمن. تحقق الدولة الأمن لهذه الطائفة أو لتلك بحماية الإيمان الدينى ودور العبادة. ولكن ماذا يحصل عندما تضعف قبضة الدولة أو عندما تتراخى؟ إن الإجابة عن ذلك ماثلة أمامنا فى العراق. أما الثقافة المجتمعية التى تقوم على احترام الإيمان المختلف، وعلى احترام حقّ الآخر فى أن يكون مختلفا وليس على التسامح معه ؛ وكذلك فان التربية على اعتبار حماية دور العبادة كلا لا يتجزأ، تـُحترم وتـُصان ويدافع عنها على قاعدتى الإيمان والمواطنة معا. هاتان الثقافة والتربية تحققان الأمان الذى من دونه لا يسلم مجتمع ويزهر، بل لا يقوم أساسا.
إن الأمن الذى تحققه الدولة بقوانينها وبقواتها معرّض دائما للاهتزاز أو للتبدل مع تبدل المعادلات السياسية. أما الأمان المنبثق عن ثقافة إيمانية فانه لا يتأثر بأى معادلات ولا يرتهن بأى متغيرات.
الأمان يتجاوز الأمن. الأمن تحققه السلطة بهيبتها وقواتها. أما الأمان فيحققه المجتمع بالتربية على قبول الاختلاف والتعدد الدينى واحترامه. وعلى الإلتزام بقواعد المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات بين المواطنين دون التوقف أمام انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية. وعندما يشيع الأمان بين المواطنين، أى عندما يطمئنون إلى حرياتهم الفردية والجماعية، وحتى إلى نرجسياتهم الطائفية أو المذهبية، فانهم لا يتخلون عن النظام الطائفى ويترفعون عن الاحتماء به فقط، ولكنهم يبدون خجلا منه ويلقونه وراء ظهورهم منسيا. وهذا ما نعنيه بالإستغناء عن الطائفية مع المحافظة على التعددية الدينية.
عندما يطمئن المجتمع اللبنانى بكل مكوناته إلى أن من مصلحته التخلص من أعباء الطائفية، فانه سوف يبادر إلى الدخول فى عملية الاستغناء عنها. وهذا يتطلب فك الارتباط بين الانتماء للطائفة ــ أىّ طائفة ــ والمصالح الفردية، او حتى المصلحة العامة للطائفة.
من هنا السؤال: كيف يمكن تطوير الحياة الاجتماعية ــ الثقافية ــ السياسية فى لبنان ليصل اللبنانيون إلى المستوى الذى ينقلهم من حالة الاحتماء بالنظام الطائفى إلى حالة الإستغناء عنه، ومن ثم الشعور بالخجل منه ؟
●●●
من الطبيعى أن ذلك لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، ولا من خلال خيمة احتجاج يقيمها مؤمنون صادقون باللاطائفية فوق رصيف هذا الشراع أو ذاك، كما حدث مؤخرا. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يلغى الطائفية المنتفعون من استمرارها، والمتعيشون عليها، والمستثمرون لعصبياتها، وهم كثير.
ثم ان العالم العربى بدأ يشهد بداية تفجرات لعصبيات طائفية ومذهبية مقلقة، بل مخيفة. فبعد الاجتياح الأمريكى للعراق، وانشطار السودان، وارتدادات أحداث «الربيع العربى» التى تجسدت فى تضخم مخاوف طوائف هنا.. ومذاهب هناك على حرياتها وعلى حضورها ودورها.. فان ثمة مبررا للقلق من أن تصبح النظرة إلى الطائفية فى لبنان على أنها فضيلة وليست رذيلة، وانها حاجة وضرورة وليست صيغة يجب أو يمكن الاستغناء عنها. بمعنى اعتبار الطائفية نظاما ضامنا للحقوق وحافظا للحريات، وتاليا نموذجا يقتدى به عربيا، وليس نظاما يُستغنى عنه لبنانيا.
وما لم يتم التعامل مع هذه المخاوف بحكمة واستيعاب ومحبة، وما لم تحترم مشاعر أصحابها بصدق وبموضوعية، فان العديد من الدول العربية قد يواجه مطالب باعتماد ما يحاول اللبنانيون أو ما يتمنون الاستغناء عنه.
وأخشى إذا هبطت الأمور بالمنطقة العربية إلى هذا المستوى من التدهور، أن يصح فينا قول الشاعر : «رُبّ يوم بكيت منه فلما صرت فى غيره بكيت عليه».