الإسلاميون فى القول والفعل

فوّاز طرابلسى
فوّاز طرابلسى

آخر تحديث: الأحد 18 ديسمبر 2011 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

جاءوا متأخرين إلى الثورات. لكن الإسلاميين لم يقطفوها بعد. حازوا النسبة الأعلى من الأصوات فى الانتخابات النيابية للمرحلة الانتقالية، ولم يحوزوا الأكثرية. تضافرت على تلك النتائج عوامل عديدة. منها الاختلاط التاريخى بين الأحزاب القومية واليسارية وبين الأنظمة الشعبوية العسكرية قيد التفكيك، ما أضعف من مصداقيتها، حتى لا نقول إن أحزاب المعارضة التقليدية باتت هى أيضا من مخلفات الماضى. ثم إن منطق التمثيل الثورى لا يتطابق مع منطق التمثيل الانتخابى. ليس فقط لأن الوقت لم يسنح لتبلور القوى والطاقات الشابة والشعبية، التى فجّرتها الثورات، فى تشكيلات سياسية. بل لتخلّف الأنظمة الانتخابية أصلا عن أن تنعكس إرادة الجماهير. إلى هذا، يمكن أن تضاف الأسبقية إلى الأحزاب الاسلامية من حيث التنظيم والانضباط وتوافر الإمكانيات المادية، بما فيها دعم الأنظمة النفطية.

 

مهما يكن، ثمة أمرين لافتين لأول وهلة.

 

الأول، الاستعجال الظاهر لاعتبار التفويض الانتخابى المعطى للأحزاب الإسلامية لقيادة عملية انتقالية ــ تصوغ الدساتير الجديدة وتسن القوانين الانتخابية الجديدة وتعود بها إلى الناخبين ــ وكأنه تفويض لتولى السلطة كما لو أن عملية الانتقال قد أنجزت. تتقاطع سياسة حرق المراحل هذه مع نهج الإدارة الأمريكية الاستيعاب للموجة الثورية عن طريق الدعوة لحلول نائب الرئيس محل الرئيس، وإخراج الجماهير من الفعل والتأثير فى الشوارع والميادين، والحفاظ على جوهر الانظمة من حيث أدوار المؤسسات العسكرية وغلبة السلطة التنفيذية فيها.

 

والثانى هو سرعة مبادرة الإسلاميين إلى تطمين حكام أوروبا وأمريكا بتقديم التنازلات فى ميدانين بارزين: الاقتصاد والموقف من الصهيونة ودولة اسرائيل. ما من تصريح بالنسبة لهذه الأخيرة إلا ويسعى إلى تبهيت الالتزام بالعداء للصهيونية ودولة إسرائيل والامتناع عن التطبيع والالتزام بنهج المقاطعة الاقتصادية، الخ. فى الأمر ما يشى بالقبول بالمنطق اياه الذى سارت وتسير عليه الأنظمة من الاعتماد على شرعية الخارجية أساسا لحكمها.

 

إلى هذين الأمرين تضاف أفعال الإيمان بالديمقراطية يقابلها الجهر بمعارضة العلمانية أو الاستعاضة عنها بصيغة «المدنية» على اعتبارها تسوية بين «الإسلام هو الحل» وبين الحياد الدينى للدولة. فما معنى التزام تلك الأحزاب بالديمقراطية وما مداه؟ تعنى الديمقراطية، فيما تعنى، المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، المكرسة فى الدستور والقوانين والمؤسسات. فهل هذا ما سوف يلتزم به الإسلاميون؟ وهو يتنافى مع التمييز فى الحقوق السياسية بين رجال ونساء، وبين مسلمين وغير مسلمين، فى الوصول إلى الرئاسة الأولى للبلاد أو فى الخدمة فى القضاء، مثلا، ناهيك عن التمييز فى الأحوال الشخصية بين المسلمين، رجالا ونساء، فى الإرث والطلاق والحضانة وغيرها. وغنى عن القول أن تأمين «كوتا» لتمثيل النساء والأقباط فى المؤسسات التمثيلية المصرية لا يجيب عن هذه المشكلة. فأين ديمقراطية الإسلاميين فى هذه المجالات الديمقراطية؟ يجيب ناطقون باسمهم فى مصر أن الشريعة هى التى تتكفل بحقوق «إخواننا الأقباط». وهذه الذمية فى التعامل مع «اهل الكتاب» تكرّس للامساواة فى السياسة وفى القانون.

 

تخدم بدعة «الدولة المدنية» عادة فى نشر الغموض حول هذا الموضوع بالذات: مرجعية التشريع. هل الفيصل فى التشريع هو مؤسسات السيادة الشعبية ــ أى المؤسسات المنتخبة والاستفتاء العام ــ أم هى النص الدينى؟ ومن يُئَوِّل النص الدينى؟ المشرّعون المدنيون أم علماء الدين؟

 

●●●

 

المؤسف أن تجربة الثنائية التى تقوم عليها الدساتير العربية ــ بين المبادئ الزمنية وبين أحكام الشريعة ــ نادرا ما تتعرض للبحث والنقاش. ولكن فلنلق نظرة على أكمل تجربة فى تلك الثنائية ــ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ــ التى يقوم نظامها السياسى على قائمتين: شرعية السيادة الشعبية) المؤسسات الجمهورية) وشرعية النص المقدس والمرجعية الدينية (مؤسسات ولاية الفقيه). مع أن الثانية، غير صادرة عن الانتخاب ولا خاضعة للمساءلة، فإنها تمارس وصايتها على الأولى والرقابة. إلا أنها، لكى تستطيع ذلك، اضطرت لأن تتحول هى نفسها إلى سلطة زمنية سياسية وأمنية وعسكرية وقوة اقتصادية ومالية موازية للمؤسسات الجمهورية. هكذا، صارت تلك المرجعية خاضعة هى ايضا للمصالح ولعلاقات القوى أسوة بالمرجعية الجمهورية المدنية ورجالاتها. ومنعا لأى التباس، ليست تنوى هذه اللفتة الدعوة إلى حرمان المؤسسة الدينية التأثير فى التشريع. التمييز هنا هو بين التأثير ــ وهو حق وحرية مكفولان فى كافة الأنظمة العلمانية الديمقراطية ــ وبين دور المؤسسة الدينية بما هى مرجع الفصل والحسم فى التشريع وأمور الحكم.

 

تلقى هذه الأسئلة وسواها بظلال ثقيلة على ادعاء التنظيمات والأحزاب الإسلامية العربية اتباع «النموذج التركى». يقوم الدستور التركى على ثلاثة مبادئ غير قابلة للتعديل: الجمهورية، الديمقراطية، العلمانية. هذا يعنى أن الآية مقلوبة فى حديث الإسلاميين العرب عن النموذج التركى. ذكّرهم طيب أردوغان بالأمر فى زيارته الأخيرة لمصر عندما قال: أنا رئيس حزب إسلامى يحكم فى دولة علمانية. اما رؤساء الاحزاب الاسلامية العرب فلا معنى لاتهامهم بالعمل على بناء دولة علمانية ــ كما نصحهم أردوغان ذاته واستحق ما استنزلوا عليه من هجوم ولعنات. أقل ما يقال إنهم يسعون لتصفية ما استطاعوا إليه سبيلا من عناصر العلمانية فى الدول العربية المعنية: الزواج الأحادى، الاختلاط المدرسى والجامعى، عمل المرأة، فرض القيود على حرية التعبير والرأى والتصرّف بالجسد (الرقابة المسماة «الأخلاقية») وغيرها. والسؤال: باسم أية خصوصية ثقافية يتميّز الإسلاميون العرب عن هذا النموذج التركى الحقيقى؟ الإسلام؟

 

ليس صدفة أن تعلن معظم الحركات الإسلامية التزامها بخطط صندوق النقد والبنك الدولى المتكئة على مبادئ النيوليبرالية المتعولمة. إنها، فى عميق رؤيتها، تحلّ التمايز الثقافى ــ الدينى بين «شرق» و«غرب» محل التفاوت فى التطور واللامساواة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن العولمة الرأسمالية النيوليبرالية. فلا تجدها تضع موضع التساؤل أيا من أساسيات العولمة الرأسمالية. يرفض الإسلاميون الفائدة والربا لكنهم يقدسّون مبدأ الربح، المحرّك الرئيس للنظام الرأسمالى. ويحترمون حرية الاسواق والملكية الفردية وغالبا ما أيدوا إجراءات الخصخصة فى بلادهم. وهم يستبدلون مبدأ التوزيع العادل للثروة والموارد وخدمات الدولة الأساسية بالإحسان والصدقات او بالخدمات الاجتماعية التى جنوا بسببها الكسب السياسى والانتخابى (توزيع «إخوان» مصر مليون ونصف مليون كيلو لحمة فى عيد الأضحى، مثلا) دون أن تساهم خدماتهم فى إحقاق الحقوق الاجتماعية لجميع المحتاجين اليها.

 

لا يكفى القول إن الإسلاميين العرب يكررون هذا الالتزام فى زمن تتعرض فيه العولمة النيوليبرالية للزلزلة فيما الأزمة المالية تكتسح أوروبا بعد أمريكا وتهدّد دولا بأكملها بالافلاس والعملة الموحدة بالإلغاء. الأفدح انهم يفعلون ذلك فى وقت تراجع فيه المؤسسات الاقتصادية والدولية ذاتها سياساتها تجاه المنطقة انطلاقا من دروس الثورتين التونسية والمصرية، خصوصا ما كشفته لجهة عدم اهتمام تلك المؤسسات بمسألة خلق فرص العمل للشباب.

 

خلاصة القول إن اختزال الليبراليين والديمقراطيين واليساريين تمايزهم عن الإسلاميين بالهوية العلمانية وحدها لا يكفى. إنه يعزلهم عن الملايين من أبناء الفئات الشعبية الذين يخدمهم الإسلاميون، هؤلاء الذين ينتظرون من الثورات توفير العمل والحد الأدنى اللائق من الأجر والمعيشة وتعميم الحقوق الاجتماعية فى السكن والتعليم وماء الشرب والبيئة النظيفة والصحة على الجميع.

 

●●●

 

هذه مهمات تتحدى جميع القوى الثورية. وهنا تحديدا الفرصة التاريخية لليسار أن يجدد حضوره ودوره وشبابه بأن يبلور رؤيته ويعيد بناء قواه حول ثلاثة محاور هو الأكثر أهلية لها: خوض معركة الديمقراطية إلى النهاية على امتداد العالم العربى؛ تقديم الأجوبة على تحديات المرحلة الجديدة من التحكّم الإمبريالى والصهيونى بالمنطقة؛ التطعيم المستمر للديمقراطية السياسية بمضامينها الاجتماعية، أى بالعدالة الاجتماعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved