الأساطير الخمس عن الدستور والاستفتاء
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 ديسمبر 2012 - 3:50 م
بتوقيت القاهرة
أيا كانت نتيجة الاستفتاء الجارى على مشروع الدستور، فإن المحصلة النهائية لن تمثل انتصارا حاسما لأى طرف. وفقا لنتائج المرحلة الأولى، فإن الغالبية العظمى من المصريين لم تشارك أصلا وعبرت بذلك عن عدم اكتراثها بالصراع السياسى أصلا. والجانب المؤيد للدستور لم يحصل على الفوز الحاسم الذى كان يأمل أن يمكنه من إحكام سيطرته على الدولة وإقناع الرأى العام المحلى والعالمى بأنه يمثل تسعين فى المائة من المصريين. أما الجانب المعارض فلم يصل إلى تحقيق الضربة القاضية التى كان يتصور أنها سوف تخلصه من سيطرة الاخوان المسلمين على الحكم. نتائج المرحلة الأولى تؤكد أمرا واحدا، وهو أن الشعب منقسم بين مقاطع وغير مكترث ومؤيد ومعارض، وإدراك هذه الحقيقة والاعتراف بها هو المكسب الأكبر من الاستفتاء لأنها تعيد توازنا مطلوبا إلى الساحة السياسية وتبين مرة أخرى أن على الرئيس وحزبه وجماعته أن يدركوا أن لهم شركاء فى هذا الوطن، وأن لهؤلاء الشركاء حقوق كما أن عليهم واجبات، وأن استمرار النظام الحاكم فى تجاهل مشاعر ومخاوف غالبية المواطنين وضع لا يمكن أن يستمر.
مهما كان حجم التجاوزات فى الجولة الأولى من التصويت والتى بلغت فى بعض المناطق ما يقرب من التزوير المباشر، فإن المشاركة فى هذه المعركة كانت فى تقديرى ــ ولا تزال ــ هى القرار الصائب لأنها أعطت الرافضين للدستور لهذا الأسلوب المنفرد فى الحكم الفرصة لكى يعبروا عن رأيهم بالوسيلة الوحيدة المتاحة لهم، وهى فرصة ما كان يجب تفويتها وإلا استمر الحزب الحاكم فى الترويج لأسطورة أنه يمثل تسعين فى المائة من المصريين. وهذه هى الأسطورة الأولى فى سلسلة مغالطات كبرى أحاطت بموضوع الدستور منذ بدايته، وتم الترويج لها فى الإعلام، ومن على المنابر، وبواسطة أجهزة الدولة، وإقناع الرأى العام العالمى بها، حتى صارت كالأساطير الشعبية التى تصبح من فرط تكرارها حقيقة.
الأسطورة الثانية هى أن هذا الدستور الذى يجرى الاستفتاء عليه توافقى ويمثل إرادة الشعب المصرى كله بينما الحقيقة أن تجاهل غالبية الناس للاستفتاء أساسا، ورفض ما يقرب من نصف من شاركوا، وغضب القضاة، وانسحاب الكنائس والنقابات والجمعيات، والمعارك فى الشوارع وسقوط القتلى والجرحى، والاحتجاج الظاهر فى المجتمع، كل هذا لا يمكن أن يكون توافقا ولا حتى تفاهما. لذلك فلا عجب أن تأتى نتيجة الجولة الأولى من الاستفتاء لكى تبرز حجم الانقسام الذى أصاب المجتمع المصرى بسبب فشل الجمعية التأسيسية فى عملها: انقسام بين الريف والحضر، وبين الصعيد ووجه بحرى، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين الرجال والنساء، وبين الطبقات الاجتماعية، وتجاهل تام من سبعين فى المائة من المصريين. ولمن يتصور أن الخلاف فى الرأى والانقسام ظاهرة طبيعية فى الانتخابات والتنافس السياسى، فأذكرهم بأننا لا نتحدث هنا عن قانون يتم تمريره بأغلبية النواب، ولا عن منافسة بين مرشحين للرئاسة يكفى فيها الفوز بفارق صوت واحد، بل نتحدث عن دستور يمثل عقدا اجتماعيا بين الشعب والدولة والحكم ويلزم لاستقراره واحترامه أن يكون مبنيا على القبول العام من أغلبية ساحقة من المجتمع لا أن يكون مصدرا للانقسام والفرقة.
الأسطورة الثالثة التى جرى الترويج لها فى الأسابيع الأخيرة هى أن إقرار هذا الدستور سوف يؤدى إلى تحقيق الاستقرار ويعيد عجلة الانتاج للدوران، وهذا أيضا غير صحيح. الاستقرار لا يعود ويترسخ لأن نصا قانونيا قد تم إقراره، بل حينما يسود المجتمع قدر من التوحد والوئام يسمح بانتظام العمل، وبناء المؤسسات، وتطبيق القانون. أما فى ظل الانقسام الذى نعيشه فإن إقرار الدستور لن يأتى بجديد. ولنتأمل مهزلة الضرائب الأخيرة لكى ندرك أن هناك حالة من الانقسام والتخبط لا شأن لها بموضوع الدستور. الرئيس يصدر ستة قوانين بفرض ضرائب جديدة، ويتم نشرها فى الجريدة الرسمية، ويعلن عنها فى وسائل الإعلام، وترتفع أسعار السلع نتيجة لها، ثم يعلن المتحدث باسم الرئاسة «تجميدها» بعد ساعات قليلة، ولكن لا ينشر ذلك رسميا، ثم يجرى تحميل وزير المالية بالمسئولية وحده وكأنه يجلس فى منزله مساء يخترع ضرائب ويقبض عائدها بمفرده، فنجد أنفسنا فى النهاية فى أسوأ الأوضاع جميعا: ضريبة موجودة رسميا، تنكرها الرئاسة شفهيا، وتتجاهل الحكومة الحديث عنها، والجميع يعلم أنها ستعود لا محالة. هذا هو عدم الاستقرار وهذه هى الفوضى، فلا تبحثوا عن الحل فى نص دستورى، لأن الحل الوحيد هو ــ مرة أخرى ــ أن يشعر المصريون جميعا أنهم جزء من هذا الوطن ومشاركون فى صنع القرار، وأن يتحمل الرئيس والحزب الحاكم مسئولية القرارات بدلا من إلقائها على عاتق الوزراء وحدهم.
أما الأسطورة الرابعة والأخطر، فهى أن قبول الدستور والتصويت بـ«نعم» يعنى الدفاع عن الشرعية القانونية للدولة والحكم. والحقيقة التى يعلمها الجميع أن الدستور، لو كتب له أن يصدر، فسيكون قد جاء فى ظل تحد صارخ لدولة القانون ولاستقلال القضاء وللشرعية الدستورية. ما هذا الدستور الذى يلزم لصدوره أن يحصن رئيس الجمهورية قراراته من رقابة القضاء، وأن يحاصر البلطجية مقر المحكمة الدستورية العليا لكى يرهبوا مستشاريها، وأن يتوجهوا بعد ذلك لمحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى لإرهاب الإعلاميين، وأن يتم الاعتداء على مقار الأحزاب (الحرية والعدالة والوفد على حد سواء)، وأن ينقسم المجتمع القضائى على نحو غير مسبوق، وأن يستقيل مستشارو الرئيس الواحد تلو الآخر، وأن يشتبك الناس فى الشوارع، وأن يسقط شهداء وضحايا نتيجة قرار اتخذه الرئيس ثم قام بإلغائه بعد أن حقق الغرض منه؟ كيف تكون الموافقة على الدستور دليلا على الدفاع عن الشرعية إذا كان الثمن هو هدم القانون والقضاء والمؤسسات؟
وأخيرا نأتى إلى الأسطورة الخامسة، وهى أن الدستور المعروض للاستفتاء «واحد من أعظم الدساتير التى وضعها البشر إن لم يكن أفضلها جميعا» كما جرى وصفه كثيرا. وتعليقى الوحيد أن دساتير العالم العظيمة لم تكتب فى بضعة أشهر، ولم تشكل جمعياتها التأسيسية على هذا النحو، ولم يتم تعديلها فى مناقشة ليلية مثيرة للشفقة، ولم يستبعد عن المشاركة فيها فقهاء البلد الدستوريون، ولم تطرح على الناس لمدة خمسة عشر يوما فقط. فلنتواضع على الأقل فى الحديث عن هذا الدستور الهزيل لأن التواضع فضيلة.
ولنعود لسؤال الساعة: لماذا نشارك إذن فى الاستفتاء على دستور هزيل، كتبته جمعية باطلة، وانفرد به فصيل سياسى واحد، وامتنع القضاة عن الإشراف عليه، وهدم شرعية القانون، وأدى بنا إلى انقسام فى المجتمع؟ ببساطة لأن جماهير واسعة ترغب فى التعبير عن رفضها واستيائها من الدستور ومن الحكم ومن هذه الخديعة الكبرى التى تم استدراجنا إليها، وهذا الاحتجاج هو الأمل الوحيد فى عودة التوازن للحياة السياسية وعودة العقل والحكمة لمن بيدهم مقاليد الأمور.