عن أزمة الطبقة الوسطى

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 18 ديسمبر 2015 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

ما الذى يجمع بين استمرار انجذاب قطاع واسع من الأمريكيين لرجل الأعمال دونالد ترامب على الرغم من عنصريته الكريهة، وبين صعود أحزاب وحركات اليمين المتطرف فى عديد المجتمعات الأوروبية، وبين التأييد الشعبى للسلطوية فى مصر؟ الإجابة هى مخاوف الطبقات الوسطى التى تدفعها فى البلدان الديمقراطية بعيدا عن الالتزام بقيم العقل والعدل والحق والمساواة وتلقى بها فى أحضان متطرفين بضاعتهم الوحيدة هى التحريض، بينما تزين لها فى البلدان غير الديمقراطية استبدال مبادئ سيادة القانون وتداول السلطة بأوهام الديكتاتور العادل وحكم الأبطال المنقذين وتقنعها بقبول مقايضة فاسدة هى الخبز والأمن نظير الحرية.
فى الولايات المتحدة الأمريكية، طغت العنصرية على الخطاب السياسى والإعلامى لترامب منذ أعلن ترشحه للحصول على البطاقة الرئاسية للحزب الجمهورى. مثل المهاجرون غير الشرعيين«ضحايا البداية» لعنصرية ترامب الذى طالب بطردهم جميعا وإعادتهم وأسرهم إلى البلاد «التى قدموا منها»، بل ورفض استثناء المجنسين من أبناء المهاجرين غير الشرعيين من حملته المزمعة للطرد الجماعى. ثم وجه رجل الأعمال عنصريته التحريضية إلى المواطنين الأمريكيين ذوى الأصول العربية والمسلمة، وإلى المقيمين العرب والمسلمين فى أعقاب تفجيرات باريس الإرهابية (نوفمبر 2015). خرج ترامب على الرأى العام مقترحا قيام السلطات الفيدرالية بتسجيل جميع العرب والمسلمين فى قوائم خاصة ووضعهم تحت رقابة أمنية دائمة، ومناديا أيضا برفض قدوم العدد المحدود من اللاجئين السوريين (بين 8 و9 آلاف لاجئ) الذى كانت إدارة أوباما قد التزمت باستقباله فى 2016. وفى أعقاب الحادث الإرهابى الذى شهده جنوب ولاية كاليفورنيا (مدينة سان برناردينو)، تحول الأمر إلى مطالبة علنية بمنع دخول المسلمين بمن فيهم المواطنين الأمريكيين إلى الأراضى الأمريكية وإبعادهم عنها لدواعى الحرب على الإرهاب. وبذلك استبدلت عنصرية ترامب ضحايا البداية، المهاجرين غير الشرعيين، بالعرب والمسلمين وطالبى اللجوء السوريين وزج بالجميع إلى خانة واحدة، خانة المسلم الإرهابى.
غير أن عنصرية ترامب الكريهة والتحريضية ليست نتاج تكوينه الشخصى وحسب. كما أن من غير الموضوعى اختزالها فى رغبة مرشح يفتقد إلى خبرة سياسية حقيقية ولا يمتلك شخصية كاريزمية فى الحصول على اهتمام إعلامى. نعم، يشير الكثير من الصحفيين الأمريكيين الذين يعرفون ترامب ويتابعون حملته الانتخابية إلى عنفه اللفظى وغطرسته البالغة فى التعامل مع الآخر، إن امرأة أو مهاجر غير شرعى أو مسلم أو فقير. لا يجانب الصواب هؤلاء الصحفيين حين يربطون بين هذه الحقيقة وبين عنصرية الخطاب السياسى والإعلامى لترامب. كذلك، جلبت المطالبة بطرد المهاجرين غير الشرعيين الكثير من الاهتمام الإعلامى لترامب فى الأسابيع الأولى لحملته الانتخابية، تماما كما تحاصره الصحف والمحطات التليفزيونية اليوم بعد تصريحات إبعاد المسلمين الأخيرة. لا أنكر هذا أو ذاك. إلا أن العنصرية التى لا يجد ترامب أدنى غضاضة فى التعبير العلنى عنها وهو ينافس على البطاقة الرئاسية للحزب الجمهورى تظل عصية على الفهم ما لم ينظر إليها كنوع من أنواع الاستجابة المباشرة لمخاوف الطبقة الوسطى فى الولايات المتحدة.
***
منذ سنوات، واستطلاعات الرأى العام تظهر تململ الطبقة الوسطى ــ خاصة فى شرائحها الدنيا ــ من تنامى ظاهرة الهجرة غير الشرعية. منذ سنوات، ونقاشات السياسة فى العاصمة واشنطن ترفض التناول الموضوعى لأسباب تململ الطبقة الوسطى خشية التورط فى ترديد مقولات عنصرية عن الأمريكيين اللاتينيين، وعن قوة العمل الرخيصة التى أصبحوا يمثلونها فى الاقتصاد الأمريكى، وعن منافستهم الشرسة للمواطنين الأمريكيين وللمقيمين الشرعيين على أماكن العمل فى بعض قطاعات الخدمات. منذ سنوات، وتململ الطبقة الوسطى يترك لوسائل الإعلام اليمينية ولبعض المنظمات الدينية والحركات الاجتماعية ذات التوجه المحافظ ليس بهدف ترشيده الاشتباك الإيجابى مع مجتمع المهاجرين غير الشرعيين، بل لبلورته كقوة ضغط لإبعادهم ومنع وصول المزيد منهم إلى الأراضى الأمريكية. ثم رتبت بعض القرارات التنفيذية (الرئاسية) التى أصدرتها إدارة أوباما، خاصة القرار المتعلق بفتح باب التجنس أمام المهاجرين غير الشرعيين، انقلاب التململ إلى خوف صريح.
أما المواطنون والمقيمون من أصحاب الأصول العربية والمسلمة، علما بأن الكثير منهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فمازال ينظر إليهم كفئة أو طائفة غريبة عن النسيج المجتمعى الأمريكى. والبعض، خاصة فى أوساط الأغلبية ذات الأصول الأوروبية، يرى فيهم بتنميط عنصرى صريح مصدرا محتملا لامتداد خطر الإرهاب إلى الولايات المتحدة. ومع دموية ووحشية داعش، وتفجيرات باريس، وإرهاب سان برناردينو؛ انفجر بركان الغضب والخوف باتجاههم تماما كما حدث فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية.
فى السياقين، مخاوف الطبقة الوسطى من المهاجرين غير الشرعيين ومخاوفها من ذوى الأصول العربية والمسلمة، تأتى عنصرية ترامب كاستجابة مباشرة تتماهى مع الخوف طلبا لتأييد الخائفين، تتماهى مع الخوف أملا فى أن يمكن مرشحها من الفوز بالبطاقة الرئاسية ثم يحمله إلى البيت الرئاسى. تصنع العنصرية من الخوف غولا، وتدعى أن السبيل الوحيد للسيطرة عليه هو ذبح قيم العقل والعدل والحق والمساواة، تارة بطرح جنون الطرد الجماعى وتارة أخرى استخفافا بالاضطهاد المرتبط بمنع مواطنين ومقيمين شرعيين من العودة إلى مكان معيشتهم بسبب الهوية الدينية. ولأن مخاوف الطبقة الوسطى حقيقية، وعنصرية ترامب تتماهى معها وتستغلها ضاربة عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والإنسانية؛ يتواصل انجذاب قطاع واسع من الأمريكيين له ولخطابه السياسى والإعلامى المتهافت.
وما يسجل فى شأن الطبقة الوسطى الأمريكية يمكن أن يوظف لفهم انجراف الطبقات الوسطى لتأييد اليمين العنصرى والمتطرف فى مجتمعات شمال وغرب أوروبا التى استقرت بها الآليات الديمقراطية منذ عقود طويلة. الخوف من المهاجرين غير الشرعيين، الخوف من اللاجئين القادمين من بلاد الحروب والصراعات الأهلية وغيرهم ممن يبحثون عن فرص للعمل وتعرفهم الحكومات الأوروبية باستعلاء بالغ كلاجئى المنافع الاقتصادية، الخوف من العرب والمسلمين الذين يصنفهم البعض كحملة هوية دينية لا تتناسب مع أوروبا ويراهم البعض الآخر كمورد للإرهاب، الخوف على فرص العمل فى أسواق تبحث دائما عن العمالة منخفضة الكلفة. هنا أيضا تمثل العنصرية استجابة تماهى مع مخاوف الطبقات الوسطى، وتطلق للتطرف العنان ليستبيح الكرامة الإنسانية للضعفاء ويروج لفعل الإقصاء والإبعاد والإخراج كالفعل الوحيد الممكن لمواجهة غول الخوف. ولتذهب مجددا قيم العقل والعدل والحق والمساواة إلى الجحيم.
***
أما فى مصر، فتتكرر مأساة مخاوف الطبقة الوسطى فى فصول أخرى؛ خوف من تحول ديمقراطى يعطى للفقراء والمهمشين ومحدودى الدخل عبر ممثلين منتخبين الكلمة العليا فى إدارة شؤون البلاد لأنهم أغلبية السكان، خوف من اليمين الدينى الذى يعجز عن طمأنة العلمانيين والأقليات الدينية، خوف من الفوضى وانهيار الدولة والمجتمع، خوف من تراجع المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقة الوسطى فى لحظة تحول بها الكثير من التخبط. وحصاد الخوف هو انقلاب الطبقة الوسطى التى تصدرت الثورة الديمقراطية فى 2011 على مبادئ سيادة القانون والتداول السلمى للسلطة فى 2013، ثم ارتدادها إلى مواقع تأييد السلطوية والصمت على قمعها والتعلق مجددا بأوهام الديكتاتور العادل كحل وحيد لمواجهة الخوف.
هناك وهنا، لن تعود الطبقات الوسطى من انصرافها عن الديمقراطية ما لم تواجه السياسة مخاوفها بموضوعية وجدية. هناك لديهم هذه التى نسميها سياسة، أما هنا فغيابها مطلق واحتمالات إحيائها شبه معدومة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved