ليس موضوعى اليوم هو النقاش الدائر حول المحطة النووية بالضبعة والتى جرى الاحتفال بتوقيع اتفاق إنشائها مع الجانب الروسى الاسبوع الماضى. فليست لدى المعلومات الفنية ولا البيانات الدقيقة التى تجعلنى مطمئنا إلى تكوين رأى نهائى فى الموضوع. ولكن مرة أخرى يشغلنى أن عملية اتخاذ القرار المنتهى بتوقيع الاتفاقية لم تكن واضحة ولا معلنة وبالتالى لم تأت معبرة عن تشاور كاف داخل المجتمع أو شراكة فى صنع القرار. وهذا يفسر حالة التوجس والقلق السائدة كما يحدث مع كل مشروع قومى عملاق يسمع عنه الرأى العام دون معرفة كافية بجدواه الاقتصادية والاجتماعية، وما كان متاحا من بدائل له، وما يمثله من عبء فى السداد على الأجيال القادمة.
السؤال حول كيفية اتخاذ القرار فى مصر صار مطروحا بشكل أكثر إلحاحا مما سبق، خاصة مع تراجع الأدوار التى تقوم بها مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية أمام مؤسسة الرئاسة والأجهزة المحيطة بها، ومع استبعاد المجتمع السياسى والأهلى من دائرة التشاور.
الدستور الجديد يمنح الحكومة ــ الممثلة فى مجلس الوزراء ــ قدرا من الحرية والاستقلال أكثر مما كان معروفا فى الدساتير السابقة. ولكن ــ كما هو الحال مع جوانب مختلفة من هذا الدستور سيئ الحظ ــ النصوص فى واد والواقع فى واد مختلف تماما. والواقع أن دور الحكومة فى صنع القرار وفى توجيه المسار السياسى والاقتصادى والاجتماعى للدولة قد تراجع إلى حد كبير وباتت الوزارات جهات تنفيذ للسياسات التى يجرى تحديدها فى الرئاسة دون مشاركة كافية فى صنعها وتصميمها، مع تباين فى درجات مشاركة الوزارات المختلفة، وصولا إلى الحالة الصارخة لقانون الجمعيات الأهلية الذى صدر دون الرجوع لوزارة التضامن الاجتماعى المعنية بعد ذلك بتطبيقه.
أما البرلمان فقد انحسر دوره فى مناقشة مشروعات القوانين التى تقدمها له الحكومة ومراجعة التفاصيل والصياغات ولكن دون مناقشة الفلسفة التشريعية وراءها، أو الاطلاع على الدراسات المتعلقة بالآثار المتوقعة من هذه التشريعات، بل دون حتى الاقتراب من مواضيع تعتبرها الدولة على قدر من الخطورة والحساسية التى تعيق نظر البرلمان فيها. وقد ضج الرأى العام من متابعة أخبار البرلمان المنقولة إعلاميا حول صغائر الأمور وطلبات الإحاطة والاستجوابات التفصيلية التى غرق فيها أعضاؤه، بينما لم نسمع عن مناقشة حقيقية وشاملة ومعلنة حول البرنامج النووى، ولا العاصمة الإدارية الجديدة، ولا سد النهضة، كما لو كانت هذه المواضيع تتجاوز مستوى المجلس التشريعى المنتخب.
وأخيرا فإن المجتمع المدنى ــ وأقصد بذلك الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية ــ هو القناة الطبيعية للتشاور مع الشعب والتى يجب أن تحرص الدولة على استخدامها كى تأتى سياساتها معبرة عن مطالب الناس ومستجيبة لمشكلاتهم، أو فى أضعف الإيمان مفهومة منهم ولو لم تكن محل قبول. ولكن حتى القدر الأدنى من التشاور الذى دأبت حكومات وأنظمة سابقة على القيام به مع قيادات الأحزاب فى المواضيع السياسية الشائكة، ومع القيادات النقابية فيما يخصها، ومع جمعيات المستثمرين والمستهلكين والفنانين وغيرهم كل فيما يهمه، لم تعد قائمة إلا حينما يلزم تسجيل اللقطة الإعلامية، وحلت محلها مؤتمرات متفرقة لا يحضرها ممثلون منتخبون عن فئات ومصالح مهنية واجتماعية، بل من يقع عليهم الاختيار لاعتبارات الولاء والاتصال الشخصى. بل إن القضية تجاوزت كل ذلك لأن الجمعيات والأحزاب والنقابات باتت مهددة فى حريتها واستقلالها واستمرار وجودها من الأصل.
شخصيا يسعدنى للغاية أن يكون لدينا فى مصر قدرة على توليد الطاقة بأضعاف ما لدينا، وأن ننعم بعاصمة جديدة، وأن يكون فيها أعلى مبنى فى إفريقيا، وأكبر كنيسة فى مصر، وأعظم قاعة احتفالات فى الوطن العربى، ولكن كيف يمكن لإنسان عاقل أن يكون مؤيدا أو حتى منتقدا لمشروع أو برنامج لا يعلم عنه سوى أن القيادة العليا قررت أنه فى صالح البلد؟ ماذا لو كان أحد هذه القرارات خاطئا؟ وماذا لو كانت تكلفته غير مبررة؟ وماذا لو كان الناس يحتاجون إلى شىء غيره؟ وماذا لو كانت له بدائل أفضل؟ أليس من حق المجتمع أن يعلم ويناقش ويحاسب ويختار؟
دعونا من الديمقراطية فليس هذا وقتها، ومن الحوكمة لأنها مفهوم دخيل على ثقافتنا، ولكن ليكن هناك أى نوع من التشاور والشفافية والشراكة فى اتخاذ القرار، فهى فى صالح الحاكم والمحكوم معا.