معادلات القوة فى الأزمة الليبية
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 18 ديسمبر 2019 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
قرب النهاية بدا العقيد الليبى «معمر القذافى» شبه معزول، يحاربه خليط من ثوار تحركهم المثل العليا، وجماعات عنف وإرهاب طلبًا لدولة إسلامية مغرقة فى تشددها، وانتهازيين سياسيين بدوافع متباينة، وكلاب صيد خرجت لتصفية حسابات قديمة مع ما انتهجه من مواقف أضرت بمصالح كبرى.
تولت قوات حلف «الناتو» مهمة الحسم العسكرى.
لم يكن هناك جيش ليبى بأى معنى كلاسيكى يعرفه العالم، رغم خزائن السلاح، التى استخدمت بعد إطاحة «القذافى» فى تسليح الميليشيات المتنازعة، أو هربت عبر الحدود إلى مصر وعبر تركيا إلى سوريا.
كانت تلك مأساة ساعدت جماعات العنف والإرهاب، كأنها هدايا مقصودة لتحطيم ليبيا.
هكذا تأسست على أنقاض نظام «القذافى» حربا أهلية تصارعت فوق مسارحها قوى وأطراف دولية وإقليمية على النفط والنفوذ.
هناك الآن ما يؤذن بتطور نوعى فى الحرب الأهلية الطويلة ينقلها من طور إلى آخر.
نحن أمام حالة انتقال محتمل إلى حرب إقليمية معلنة فوق الأراضى الليبية يتصادم فيها سلاح وتتناقض استراتيجيات.
لم تعد القضية حجم التدخل بالإسناد تدريبا وتسليحا ودعما لوجستيا للأطراف المتنازعة وفق المصالح المتناقضة بقدر ما أصبحت تبعات صدامات السلاح على معادلات القوة والنفوذ والمصالح فى أكثر أقاليم العالم اشتعالا بالأزمات والنيران.
حسب تصريحات متواترة للرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» فإنه مستعد لنقل قوات عسكرية إلى الأراضى الليبية، إذا ما طلبت ذلك حكومة «الوفاق الوطنى» برئاسة «فايز السراج»، استنادا إلى مذكرتى تفاهم وقعاها بشأن التعاون الأمنى والعسكرى والاستخباراتى وتعيين الحدود البحرية فى شرق المتوسط.
إذا ما أقدم «أردوغان» على تلك الخطوة، بكل حمولات التهور فيها، فإنه لا يمكن استبعاد تدخل مصرى مقابل، رغم التحوط فى التصريحات الرسمية بالتفرقة بين الدعم والتدخل.
حسب الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى» فإن «حكومة السراج أسيرة للميليشيات»، وأن ما يحدث فى ليبيا يدخل مباشرة فى الأمن القومى المصرى وهو ما لا يمكن التساهل معه.
الانزلاق إلى حرب إقليمية معلنة احتمال وارد، غير أن الحسابات الدولية تضع قيودا يصعب تجاوزها بلا كلفة باهظة.
بالحسابات الاستراتيجية لا تحتمل تركيا الدخول فى ثلاث مواجهات مفتوحة بالوقت نفسه، الأولى فى الشمال السورى بالاحتلال العسكرى، والثانية فى شرق المتوسط بالتحرش العسكرى تنقيبا عن الغاز وإرسالا لقوات بحرية وطائرات مسيرة مسلحة إلى الشطر التركى من قبرص، والثالثة فى المستنقع الليبى حيث يصعب الخروج منه دون عواقب كارثية.
وبالحسابات العسكرية يكاد يستحيل التعويل على القدرات الحالية للجيش التركى فى توسيع نطاق المواجهات بالنظر إلى حجم التصفيات التى جرت داخله إثر الانقلاب الفاشل وطالت نحو ثلثى نخبته من كبار جنرالاته وقياداته حسب تقارير دولية متداولة.
فى التدخل مقامرة تركية بعلاقاتها ومصالحها الدولية.
تصعيد مؤكد مع الاتحاد الأوروبى، وفرنسا فى مقدمته.
تأزيم منتظر للعلاقات مع الولايات المتحدة رغم اضطراب مواقف إدارتها.
وصدام مرجح مع روسيا يضر باستراتيجيتها فى سوريا، إذ لا يعقل أن يكون هناك تنسيق فى بلد وصدام ببلد آخر.
يعول «أردوغان» على تعديل الموقف الروسى المؤيد لـ«حفتر» تسليحا وتدريبا بمقايضات الغاز، كأنه يعرض تمرير خط نقل الغاز الروسى عبر تركيا إلى أوروبا مقابل تعديل الموقف الروسى من الأزمة الليبية.
لعبة الابتزاز نفسها اتبعها «أردوغان» مع الولايات المتحدة، حيث يلوح بإغلاق قاعدة «أنجرليك» الجوية، بالغة الأهمية فى استراتيجية حلف «الناتو» التى تحوى نحو (50) قنبلة نووية ويتمركز فيها نحو (1500) من القوات الأمريكية، كإجراء ممكن بمواجهة أى عقوبات اقتصادية قد تفرض على خلفية التوترات المتصاعدة بأكثر من ملف.
مثل هذه الألعاب تسودها سيولة كبيرة فى التصرفات والتحولات.
يصعب تصور أن يقدم «أردوغان« على نقل قوات عسكرية تركية داخل ليبيا دون ضوء أخضر أمريكى، كالذى وفرته قبل توقيع مذكرتى التفاهم، بدعوتها لـ«حفتر» وقف هجومه على طرابلس.
التنازع على الشرعية يدخل فى صلب الصراع فيما الحقيقة أن الكلام كله فى غير موضعه وفيه انتهاك للمعانى وحرمتها.
بقوة الحقائق لم يعد متبقيا من اتفاق «الصخيرات» المدينة المغربية، التى شهدت توقيع اتفاق سياسى شامل وتفصيلى بين الطرفين المتنازعين فى (17) ديسمبر (2015) قبل أربعة أعوام بالضبط، سوى بعض الأطلال والذكريات.
لا تؤسس الشرعيات على ادعاءات وتأويلات، كالتى سوغ بها الرئيس التركى مذكرتى التفاهم مع حكومة لا يخولها اتفاق «الصخيرات» حق التوقيع عليها.
ليست هناك فى ليبيا حكومة تستحق أن توصف بـ«التوفق الوطنى»، لا سيادة على الأراضى ولا سيطرة على مؤسسات الدولة، حتى يقال إن فى انتقاد مذكرتى التفاهم اعتداء على السيادة!
اعتبارات الأمر الواقع بقوة السلاح هو ما يحكم الموقف الآن حتى يسترد الليبيون حقهم فى صناعة مستقبلهم بإرادتهم الحرة.
بالقطع لا يريد أحد أن يتورط فى حرب إقليمية مفتوحة، لا مصر ولا تركيا ولا أى لاعب آخر أيا كان حجم دوره وتدخله فى الملف الملتهب، غير أن الأمور قد تنزلق إلى هذا السيناريو بالاندفاع التركى ومقامراته التى تفوق قدراته العسكرية.
التدخل العسكرى التركى المباشر، أيا كان حجمه ودرجته، يستهدف بالدرجة الأولى منع حسم معركة طرابلس وتغيير خرائط القوة فى الأزمة الليبية على نحو جوهرى.
بأية ترجمة سياسية فإن سيناريو الحسم يفضى إلى إلحاق هزيمة سياسية موجعة بسياسات «أردوغان» فى شرق المتوسط تنال من مكانة تركيا فى معادلات القوة بالإقليم خاصة فى الأزمة السورية.
هناك ــ الآن ــ مساران كبيران متوقعان لحركة الحوادث المتسارعة.
الأول ــ أن تنجح قوات «خليفة حفتر» فى الحسم العسكرى قبل مؤتمر برلين المقرر عقده مطلع العام المقبل بإشراف أممى، بما يضع كل الأطراف أمام معادلات قوة جديدة وحصص مختلفة لحسابات المصالح والنفوذ.
بحسب رئيس البرلمان الليبى «عقيلة صالح» فإنه يتعين على المنظمة الدولية سحب اعترافها بحكومة «السراج» وتشكيل حكومة جديدة وإجراء انتخابات نيابية وفق دستور يؤسس لشرعية مستدامة.
هذا أقرب إلى جدول أعمال يرتهن بالقدرة على الحسم العسكرى قبل مؤتمر برلين.
الثانى ــ أن يحدث تدخل دولى يفضى إلى وقف إطلاق النار فى طرابلس، لكنه قرار مؤجل مؤقتا حتى تتضح الحقائق فى ميادين القتال.
بأى نظر موضوعى فى معادلات القوة بالأزمة الليبية فإن المقامرات التركية يكاد يستحيل كسبها.