بعد حرب إسرائيل ضد غزة، اتجهت أغلب منظمات المجتمع المدنى، فى الدول العربية، إلى التزام الصمت خوفا من انقطاع التمويل الذى تحصل عليه من الدول الغربية. فى ضوء ذلك، نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تناولت فيه أهمية قيام المجتمع المدنى بالتعديل الذاتى، والذى يعنى الالتزام بأخلاقيات العمل وانتقاد مظاهر الانحراف والتحيز. رأت الكاتبة أن القيام بهذا الإجراء يهدف إلى الحفاظ على رصيد الثقة المجتمعية فى هذه المنظمات، بينما التقاعس عن القيام به يؤدى إلى إضعاف المجتمع المدنى والتشكيك فى شرعية وجوده... نعرض من المقال ما يلى:لعل السؤال الذى يتعين طرحه اليوم، إلى أى مدى كانت الأطراف الفاعلة داخل مختلف مكونات المجتمع المدنى حريصة على تطبيق التعديل الذاتى باعتباره آلية تحصنهم من الانزياح عن أخلاقيات العمل وتضمن لهم أداء نزيها؟
يمكننا استرجاع المسار التاريخى من الوقوف عند تجارب متنوعة تثبت تمسك مجموعة من الأطراف الفاعلة بممارسة التعديل الذاتى نذكر على سبيل المثال الجهد الذى بذلته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعى والبصرى والنقابة الوطنية للصحفيين وغيرها من المؤسسات والمنظمات. ولكن هذا الجهد بقى محدودا وأحيانا شكليا وهو أمر راجع إلى المقاومة الداخلية إذ لا يتقبل كل جديد مبتكر دائما بعين الرضا لاسيما إذا كان قائما فى جوهره على كشف الممارسات التى تتعارض مع القيم أو العقد الداخلى أو الأخلاق المهنية... وهى رقابة يعتقد أنها تلحق الضرر ببعض الامتيازات والمصالح. وينجم عن ذلك تضامن أهل القطاع من أجل تعطيل مسار التعديل الذاتى. يضاف إلى ذلك عدم التشبيك فى الغالب، بين مختلف الأطراف الفاعلة المحلية ونظرائها فى الخارج من أجل توحيد المعايير والأسس التى يقوم عليها التعديل الذاتى.
يعاد اليوم طرح قضية التعديل الذاتى بعد التحالف الذى انخرطت فيه عدة دول من أجل الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى إذ كيف يمكن لمنظمات وجمعيات نسوية وثقافية واجتماعية وأحزاب واتحادات ورابطات.. أن تستمر فى عقد الندوات وورشات التدريب مستفيدة من التمويل الصادر عن الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا... وأن تزعم فى الوقت ذاته أنها تناصر القضية الفلسطينية؟
لقد ألقت الحرب على غزة بظلالها على المجتمع المدنى فكانت الأطراف الفاعلة مترددة فى اتخاذ ردود الفعل والتفكير فى أشكال المناصرة. مال أغلبهم إلى الصمت حتى لا يتورطوا فيحرموا من التمويل واكتفى البعض الآخر بالتموقع فى وضع «المشاهد» الذى ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب حتى يستعيد نشاطه. وفى المقابل ارتأت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والاتحاد العام التونسى للشغل وبعض المنظمات والجمعيات مناقشة الأمر واتخاذ القرار الملائم فى ضوء التعديل الذاتى للعمل. فكانت بيانات المقاطعة وفك التعاقدات وغيرها من الإجراءات حجة على أن التعديل الذاتى وسيلة للمحافظة على رصيد الثقة وعلامة على الالتزام بالقضايا العادلة دون احتساب «للغنائم» المفرط فيها.
تشير هذه المبادرات على قلتها، وعدم اهتمام الدارسين بتحليلها، إلى أن التعديل الذاتى مرتبط بمدى وعى الأطراف الفاعلة بأهمية الالتزام بإيطيقا العمل والنضال وبرهانات المشروع الإمبريالى وما يترتب عن الأنجزة من نتائج لعل أخطرها فرض علاقات القوة والهيمنة وديمومة التبعية، وهو ما يفرض اتخاذ مواقف مشرفة فى السياقات المفصلية وإعادة التفاوض حول أشكال العمل المشترك بين المجتمع المدنى والهيئات والمنظمات العالمية. كما أن التمسك بالتعديل الذاتى يعد من الممارسات الفضلى التى تتمسك بها منظمات وهيئات ومؤسسات كثيرة للوقوف بوجه الرقابة المشددة والتدخل المستمر فى عملها مما يترتب عنه حرمانها من استقلاليتها فى صنع قراراتها.
إن تقاعس مختلف مكونات المجتمع المدنى فى ممارسة التعديل الذاتى الذى يعتبر آلية مركزية فى تحديد نمط العلاقة بين الدولة والمجتمع المدنى من جهة، وبينه والجهات الممولة من جهة أخرى قد أفضى إلى حدوث تجاوزات وفوضى فى التدبير وإضعاف المجتمع المدنى فى حد ذاته والتشكيك فى شرعية وجوده. وعندما تفرط الأطراف الفاعلة فى فرصة التدريب على التعديل الذاتى يفتح الباب على مصراعيه للتعديل الحكومى.
النص الأصلى: