هل هى نهاية «البعث» فى الوطن العربى؟
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الأربعاء 18 ديسمبر 2024 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
عقب أيام معدودة من سقوط نظام الرئيس السورى السابق بشار الأسد، نقلت وكالات الأنباء خبرًا موجزًا مفاده أن قيادة حزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا قررت تعليق كل أنشطة الحزب وحتى إشعار آخر. وإذا كان مثل هذا الخبر قد مر عليه مرور الكرام عدد كبير من المتابعين للتطورات المتسارعة الوتيرة التى تحدث فى المشهد السياسى السورى على مدى الأسابيع القليلة الماضية، فإنه قد حمل فى طياته رسالة مهمة وقابلة للتفسير فى أكثر من اتجاه من قبل المحللين المهتمين بالمشهد الأيديولوجى والسياسى العام فى الوطن العربى وتطوراته منذ زمن الحرب العالمية الثانية.
وقد لعب حزب البعث، منذ تأسيسه فى سوريا فى عام 1943 ثم اندماجه بعد ذلك بسنوات قليلة مع الحزب العربى الاشتراكى، ليصبح اسمه منذ ذلك الوقت حزب البعث العربى الاشتراكى، دورًا مهمًا ومؤثرًا وأحيانًا محوريًا فى السياسات العربية على المستويين الفكرى والعملى على مدى حوالى ثلاثة أرباع القرن.
على امتداد تلك الحقبة الزمنية الطويلة، تولى حزب البعث العربى الاشتراكى الحكم فى بلدين عربيين، هما تحديدًا سوريا ما بين انقلاب 8 مارس 1963 وسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024، والعراق ما بين انقلاب 18 يوليو 1968 وسقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين فى أبريل 2003. إلا أنه قبل وخلال وبعد هاتين الفترتين، كان حزب البعث العربى الاشتراكى نشيطًا على المستويين الأيديولوجى والسياسى فى عدد لا بأس به من الدول العربية الأخرى، خاصة لبنان وفلسطين والأردن واليمن وليبيا والسودان وتونس وموريتانيا.
وما من شك فى أن الانقسام الذى حدث فى صفوف حزب البعث العربى الاشتراكى ما بين البعث «الرائد» فى سوريا والبعث «القائد» فى العراق نتيجة انقلاب فبراير 1966 فى سوريا، ساهم بدرجة ليست بالقليلة فى استنزاف قوى حزب البعث، سواء على المستوى الأيديولوجى أو السياسى، فى الوطن العربى حيث أن التنافس، بل والعداء، بين قيادة الحزب فى سوريا وقيادته فى العراق تحول إلى صراع ومواجهة مستمرة بينهما، اتسمت بالعنف فى بعض الأحيان، حتى سقوط حكم البعث فى العراق عام 2003، ربما باستثناء فترة وجيزة للغاية ما بين نوفمبر 1977 ومارس 1979 عندما حدث تقارب، بل محاولة لإعادة توحيد الحزب، بين البعث السورى والبعث العراقى، فى مواجهة تحرك الرئيس المصرى الراحل أنور السادات فيما عرف بمبادرة السلام على إثر زيارته للقدس ما بين 19 و21 نوفمبر 1977.
وقد أدى هذا الانقسام ثم العداء بين البعث فى سوريا والبعث فى العراق إلى أن قيادة الحزب فى كل من البلدين كانت تصر على أنها هى الممثل الشرعى والوحيد لأيديولوجية البعث وطموحاته السياسية، والتى تمثلت فى شعاراته الثلاثة: «وحدة، حرية، اشتراكية». إلا أن هذا التنافس لم يتوقف عند هذا الحد، فقد ادعى الحزب فى كل من سوريا والعراق أن «القيادة القومية» الشرعية للحزب توجد لديه، ومن هذا المنطلق، حاول كل منهما السيطرة على فروع حزب البعث العربى الاشتراكى الموجودة فى البلدان العربية الأخرى وكذلك على بعض فروع الحزب التى تأسست فى بعض المجتمعات العربية فى بلدان المهجر خارج حدود الوطن العربى الكبير. وقد أدى ذلك بدوره إلى تحقيق خسارة عامة لحزب البعث فى الوطن العربى، حيث انشقت أحزاب البعث الموجودة خارج سوريا والعراق فيما بينها، بل وداخل البلد العربى الواحد، إلى حزب بعثى موالٍ للعراق وحزب بعثى موالٍ لسوريا. أما ثالث بُعد درامى، وكان أحيانًا يتسم بالعنف بل والدموية، لتلك المواجهة بين البعث السورى والبعث العراقى فقد كانت المحاولات المستمرة على مدى عقود لكل منهما لتصفية الموجودين على رأس الحزب فى البلد الآخر والعمل على أن يحل مكانهم من هم موالون للحزب الموجود فى بلده، سواء كانت سوريا والعراق.
• • •
بالإضافة إلى الصراعات داخل حزب البعث، خاصة بين البعث السورى والبعث العراقى، والتى أضعفت الحزب كثيرًا على الصعيدين الفكرى والسياسى، فإن تنافس البعث ومواجهاته فى أغلب الأحيان، باستثناء فترات قصيرة من التحالف أو التعايش السلمى، كان خاصية مميزة لعلاقات الحزب مع قوى أيديولوجية وسياسية أخرى فى الوطن العربى، بما فى ذلك قوى كان يوجد بينها وبين البعث جزء من الأرضية الأيديولوجية المشتركة، وهى مواجهات ساهمت بدورها فى المزيد من الإضعاف لحزب البعث وتوجيهه بعيدا عن العمل من أجل تحقيق أهدافه التى وعد بها الشعوب العربية وهى الوحدة العربية الشاملة والحرية والاشتراكية. وقد شملت تلك المواجهات قوى قومية عربية أخرى، مثل الناصريين وحركة القوميين العرب وما تفرع عنها، كما شملت مواجهات مع الكثير من قوى اليسار، على تنوع أطيافها.
امتدت تلك المواجهات أيضًا إلى نطاق أوسع من علاقات البعث مع قوى أيديولوجية وسياسية أخرى على امتداد الساحة العربية مثل التيارات والحركات الليبرالية والحركات الإسلامية، خاصة تلك صاحبة التوجهات الأيديولوجية الأصولية والمتطرفة، وذلك بالرغم من أن حزب البعث السورى تعايش مع الحركات الليبرالية السورية ما بين استقلال سوريا عام 1943 والوحدة المصرية السورية فى فبراير 1958، وأيضًا بالرغم من أن حزب البعث العراقى سعى إلى استمالة وكسب تأييد التيارات الإسلامية فى العالم الإسلامى السنى خلال وعقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ثم فى مواجهة الحشد الدولى والإقليمى ضد العراق بعد الغزو العراقى للكويت فى 2 أغسطس 1990، كما جرت محاولات لاحقًا استهدفت التعاون والتنسيق بين بقايا حزب البعث العراقى وبعض التنظيمات السنية المتطرفة فى مواجهة الاحتلال العسكرى الأمريكى للعراق عقب غزو أبريل 2003.
ولئن كانت الإطاحة بالنظام البعثى فى العراق بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين قد أعقبها إصدار سلطات الاحتلال الأمريكى لما عرف بقانون «اجتثاث البعث» بغرض ليس فقط إنهاء وجود حزب البعث العربى الاشتراكى كحزب سياسى فى العراق، بل أيضًا لإنهاء أى وجود للحزب وكوادره فى مؤسسات الدولة العراقية، خاصة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والشرطة وكل مكونات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بل وحتى حظر أى تعبير عن الانتماء للحزب أو التعاطف معه أو مع أيديولوجيته، فإنه ليس من الواضح بعد ما سوف تتخذه السلطات الجديدة فى سوريا من إجراءات إزاء حزب البعث هناك، إذا كانت سوف تتخذ أى إجراءات خاصة فى هذا الشأن، ولكن من المؤكد أن حكم حزب البعث العربى الاشتراكى فى البلدان العربية قد انتهى فى هذه المرحلة التاريخية الهامة وفى الأغلب لفترة تاريخية قادمة على الأقل، وهو الأمر الذى يطرح تحديات إضافية هامة أمام كل الأحزاب البعثية الموجودة فى العديد من البلدان العربية، سواء التى تعمل بشكل قانونى فى بعض الحالات أو التى تعمل بشكل سرى فى حالات أخرى، حيث إنه لم تعد هناك حكومات عربية يسيطر عليها حزب البعث ويمكنها أن تقدم الدعم لتلك الأحزاب البعثية الأخرى.
• • •
مع كل ما تقدم، وكما هو الحال مع أى أيديولوجية أخرى، فلا أحد يستطيع أن يزعم أن أيديولوجية البعث قد انتهت إلى غير رجعة أو أنها ستختفى تمامًا من المشهد الأيديولوجى والسياسى العربى، فقد علمنا التاريخ، سواء على مستوى الوطن العربى أو على الصعيد العالمى بأسره، أن الأيديولوجيات لا تموت. إلا أنه سيكون من المتوقع من البعثيين فى الوطن العربى، خاصة بعد أن أصبحوا محررين من الضغوط التى كانت تمارسها عليهم الحكومات البعثية التى كانت فى السلطة فى سوريا والعراق لعقود، أن يمارسوا عملية مزدوجة من التقييم الذاتى والنقد الذاتى حتى يمكنهم فهم لماذا هذه الأعداد الكبيرة من أبناء الشعب العراقى كانوا سعداء بسقوط حكم البعث فى عام 2003 على يد طرف غاز أجنبى، ولماذا هذه الأعداد الكبيرة من أبناء الشعب السورى كانوا سعداء بسقوط حكم البعث منذ أيام على يد فصائل معارضة مسلحة، حيث إن نتائج عملية التقييم الذاتى والنقد الذاتى تلك سوف تكون ذات تأثير محورى فى تقرير مستقبل البعث فى المنطقة العربية على الصعيدين الأيديولوجى والسياسى.