ما أحلى أن نسمع قولاً منصفاً
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 19 يناير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى بضعة أيام سنحتفل بالعيد الثانى لثورة يناير. انقضى عامان بحلوهما ومرّهما، لكن يبقى أن الثورة قد نجحت، وأن منطلقها كان سليماً، وبقيت متمسكة بذلك المبدأ طوال مراحل مسيرتها باستثناءات محدودة. نالت الثورة تقدير العالم، وأشاد بها، واعتبر أنها مصدر إلهام للشعوب الأخرى. صحيح أن مسيرة الثورة قد تعثرت أحياناً، وانحرفت أحياناً أخرى عن الطريق السليم، ولكنها ما لبثت أن حاولت تصحيح المسار. تم كل ذلك تحت أعين الشعب وبصره، فكان هو الرقيب والمحاسب.
غير أنه يحلو للبعض الآن، وبعد مرور عامين على الثورات العربية، الإعلان عن أُفول نجم الربيع العربى، بل ونعيه والترحّم عليه. يجرى ذلك فى الداخل وفى الخارج. ويتصدى بعض المحللين الغربيين لعقد المقارنات بين ما آلت إليه الأوضاع فى دول الربيع العربى، وبين تلك التى جرت فى دول شرق أوروبا بعد عام 1989. يقولون أن المراحل الانتقالية فى دول أوروبا الشرقية قد مرت بسلاسة ويُسر وكُلِلَت بالنجاح. كما أنه بالرغم من الخلفية المضطربة التى مرت بها العديد من دول أمريكا اللاتينية، ودول شرق آسيا فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، إلا أن هذه الدول استعادت توازنها فور بزوغ شمس الأنظمة الديمقراطية فيها، فحققت الاستقرار والتقدم.
•••
أما الأسباب التى يحاول المحللون تسويقها عن أسباب الفشل المزعوم للتجارب العربية مقارنة بتجارب شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فتدور حول افتقار الدول العربية لما يطلقون عليه بالتجانس الداخلى، وأن معظم هذه الدول، مثل ليبيا، ولبنان، وسوريا، والأردن، والعراق والسعودية واليمن هى كيانات حديثة التكوين، بل وحدودها مصطنعة، وسكانها منقسمون على أنفسهم عرقياً وطائفياً. بالطبع لم يستطع هؤلاء أن يضموا مصر بتاريخها المديد ووحدتها منذ القدم، إلى قائمة الدول التى تحدثوا عنها، كما أن ما ذكروه عن بعض هذه الدول إنما يشى بجهل فاضح بالتاريخ، إذا ما نحن تكلمنا عن العراق وسوريا واليمن مثلاً. على أية حال غفر الله لهم هذه الخطايا وتلك الآثام.
•••
غير أنه على النقيض تماماً من هذه الأفكار المغلوطة، نجد أساتذة أجلاء فى العلوم السياسية يضعون الأمور فى إطارها الصحيح، ويعقدون من المقارنات ما هى أعمق وأشمل. يرى هؤلاء أن المخاض الذى تمر به دول الربيع العربى قد يكون عسيراً، إنما يمكن تفسير أسبابه، لا أن يُحكم على تجارب هذه الدول بالفشل، وأنها قد وصلت إلى طريق مسدود. من هؤلاء الأساتذة المنصفين البروفسور سيهرى بيرمان أستاذ العلوم السياسية بكلية بارنارد بجامعة كولومبيا الأمريكية، الذى نشر بحثاً قيماً فى الدورية الأمريكية الموثوقة «الشؤون الخارجية» والتى يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى. نُشر هذا البحث فى العدد الأخير من المجلة وحمل عنواناً صادقاً ومعبراً، وهو: «فى تطور العملية السياسية، ليس هناك مكاسب بدون آلام». والواقع أننى أدعو الجميع للإطلاع على البحث، عن طريق وسائل الاتصال المتعددة، لأن ذلك فى نظرى كفيل بإزالة الغُمة التى يشعر بها الكثيرون، وإعادة الثقة بالنفس، فضلاً عن أنه يقضى تماماً على حجج قصيرى النظر، وضعيفى الذاكرة، الذين تحدثت عنهم فى السابق.
يقول البروفيسور بيرمان إن المخاوف حول ما آل إليه الربيع العربى فى ضوء الظروف التى يمر بها، أمر متوقع. وإذا ما نحن أمعنّا النظر وتابعنا تجارب الدول الأخرى، لتبيّن لنا أن تلك الهواجس غير مبررة وتؤدى بنا إلى نتائج خاطئة بل ومضللة. ويشير الباحث إلى أن الخطأ الأساسى الذى يقع فيه المتشككون هو تجاهلهم أن حقيقة ما يحدث فى المسيرة الانتقالية للدول إنما يرجع إلى الميراث الثقيل الذى ورثته هذه الدول عن الأنظمة السابقة، وليس بسبب خياراتها أو مسلكها. فالاضطرابات والعنف التى يرى البعض أنها دليل على اختلاف مفهوم الديمقراطية فى هذه البلاد عن الدول الأخرى، أو عدم نضوج المجتمعات فى هذه الدول، هى فى حقيقة الأمر أمراض موروثة عن الأنظمة الديكتاتورية السابقة. فقد أغلقت تلك الأنظمة السلطوية كل الأبواب أمام قيام مؤسسات سياسية واجتماعية سليمة، الأمر الذى أفشل عملية صياغة وتنظيم التعبير عن المطالب الشعبية بالشكل السليم. لذلك فمن المتوقع تماماً، فى ظل ذلك، أن يقوم مواطنو هذه الدول فى المرحلة الانتقالية بالتعبير عن آرائهم، وما يشعرون به من مظالم، بطريقة انفعالية وغير منظمة. والديمقراطية التى يكتب لها الاستقرار إنما تبرز فى نهاية طريق طويل وَعِر، وصراع قد يتسم بالعنف.
•••
يستعرض الباحث تجارب ثلاث دول أوروبية هى فرنسا (التى ما أن سيطر الراديكاليون على الثورة الفرنسية العظيمة حتى تم إعدام ما يقرب من 40 ألفاً ممن نُعِتوا بأنهم أعداء الثورة، وإيطاليا (التى مرت بالتجربة الفاشية بكل مآسيها، بعد أن فشلت التجربة الديمقراطية الأولى فيها)، وأيضاً ألمانيا (التى مرت بالتجربة النازية، بكل ما خلفته من دمار فى الداخل والخارج، بعد إخفاق المحاولات الديمقراطية الأولى فيها أيضاً)، ويخلص إلى القول بأنه بالرغم من أن تلك المحاولات الديمقراطية الأولى فى هذه الدول الثلاث، قد فشلت فشلاً ذريعاً بسبب الإرث الديكتاتورى الذى ابتُليت به، إلا أن هذه المحاولات المبدئية قد أحدثت آثاراً إيجابية بعيدة المدى، وذلك فى المراحل التالية. فعندما تهيأت الفرصة مرة أخرى لقيام الديمقراطيات فى هذه الدول بعد ذلك بسنوات، تمت الاستفادة من الخبرات السابقة المكتسبة، وتم البناء عليها، وتفادى ما أُرتكب من أخطاء فى السابق. ويضيف البروفيسور بيرمان أن معظم الديمقراطيات الليبرالية الموجودة فى دول العالم حالياً كان عليها أن تشق تلك الطرق الوعرة قبل أن تصل إلى مرحلة الاستقرار. بل إن دولاً مثل إنجلترا والولايات المتحدة قد تعرضتا إلى مشكلات طاحنة وصلت إلى حد اندلاع الحروب الأهلية فيها.
•••
وهنا يصل بيرمان إلى بيت القصيد فى بحثه، فيقول إن المشكلات التى تعانى منها مصر والدول الأخرى التى تمر بمراحل انتقالية، إنما هى مشاكل طبيعية تماماً ومتوقع حدوثها، وهى مشكلات ناتجة عن أخطاء وممارسات الأنظمة السلطوية السابقة أكثر من أن تكون بسبب ممارسات اللاعبين الديمقراطيين الجدد. ويؤكد أن الديمقراطيات الوليدة تسمح للمرارة التى ترسّبت لدى الشعوب من جراء ممارسات الأنظمة الديكتاتورية السابقة، إلى أن تطفوا على السطح. لذلك فإن الحنين إلى سراب الاستقرار الذى يعتقد البعض أنه كان قائماً فى ظل النظم الديكتاتورية، هو فى الواقع رد فعل خاطئ تماماً المشكلات الحالية القائمة، لأن الأمراض الكامنة فى الحكم السلطوى هى السبب الحقيقى فى كل المشكلات التى برزت على السطح بعد ثورات الربيع العربى.
ويختم البروفيسور بيرمان بحثه بالتأكيد على أن التشاؤم الحالى حول مصير الربيع العربى، هو تشاؤم فى غير محله، وأن عام 2011 الذى اندلعت فيه الثورات العربية، كان بمثابة ميلادٍ لعصر جديد واعد فى المنطقة، وسيُنظر باستمرار إلى ذلك العام على أنه نقطة تحول تاريخية فى تاريخ هذه الشعوب.
•••
ما أجمل مثل هذه التأكيدات التى تبعث على الثقة وتحيى الأمل، ونحن نقترب من مرور عامين على ثورات الربيع العربى. فترة قصيرة للغاية فى تاريخ الشعوب، علينا أن نتخلى فيها عن تشاؤمنا، ونتخلص من مشاعر الإحباط. لابد لنا من التيقن أن المشكلات الحالية ليست بالمستغربة فى مسيرات الشعوب، وأن مصيرها إلى زوال.
•••
غير أن الأمانى وحدها لن تُجدى. ما نحتاجه إليه هو عمل جاد نجتاز به المرحلة الانتقالية الحالية، وهى بكل المقاييس لم تنته بعد. سيكون على القوى الليبرالية أن تضم الصفوف وتُعِد العدة للانتخابات القادمة. فى إمكان هذه القوى أن تجتمع على قواسم مشتركة، وتضع مصلحة البلاد فوق أى مصالح آنية أخرى. لابد لها من أن تبلور برنامجاً واضحاً محدداً، تطرحه على الشعب فى إصرار ومثابرة، تعترف فيه بالمشكلات والعقبات، وترسم فيه الخطوات، وتحدد الأهداف المطلوب تحقيقها بواقعية وصدق.
تهنئة من القلب بالعيد الثانى للثورة.
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية