دعوة الرسول: بين السياسى والدينى
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 19 يناير 2019 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
حينما بدأ الرسول دعوته إلى الإسلام، فقد كانت الدعوة خاصة فى البداية، نشرها بين بعض المقربين الذين صدقوه ودعموه، لم يكن الأمر سهلا، حينما تأتى بعد المسيح بأكثر من ٦٠٠ عام وتبدأ فى الحديث عن دعوة جديدة وخصوصا فى منطقة مثل شبه الجزيرة العربية، فإن مهمتك لن تكون سهلة على الإطلاق، عرف الرسول ذلك، وجعل دعوته محدودة الانتشار.
من الملاحظ أنه فى بداية عصر الوحى، لم يكن هناك أبعاد سياسية مباشرة للآيات القرآنية، بيد أن هذا البعد بدأ فى الانتشار تدريجيا بعد ذلك بسنوات قليلة. كان الرسول واضحا فى حديثه عن القرآن من زاويتين، الزاوية الأولى هو أن القرآن هو كلام الله مرسلا عبر الوحى وليس من صنع أو حتى من تحرير الرسول، ومن زاوية ثانية تمكن الرسول من رسم مساحتين مستقلتين للدعوة الإسلامية، المساحة الأولى هى كلام الله المقدس الذى حمله الوحى، والثانية هى مساحة الرسول نفسه كحامل ومبلغ وقائد للدعوة. كان الرسول حريصا (وهكذا يؤمن المسلمون) على التأكيد على هذه الكيانات المنفصلة. يرى بعض المؤرخين أن هذا الفصل الذى كان واضحا منذ بداية الدعوة الإسلامية هو واحد من أهم أسباب تأثير الدعوة الإسلامية وانتشارها سريعا فى منطقة شبه الجزيرة العربية بعد سنوات قليلة من بداية الرسالة.
الحقيقة أن هذا الفصل كان بمثابة اختلاف (وربما ردا) على المعتقد المسيحى الذى يرى أن الكيانين متداخلان أو مشتبكان. ومن هنا لم تكن دعوة الرسول نفيا لليهودية والمسيحية، بقدر ما كانت ــ من وجهة النظر الإسلامية ــ تصويبا وإكمالا للدعوتين. من حيث كونها تصويبا، فهى أعادت مفهوم الوحدانية الذى جعل كيان الإله متمايزا تماما عن كيان البشر، ورغم ذلك من الجدير بالذكر أن الإسلام أقر بمعجزة يسوع كونه من أم بلا أب، وبفكرة الرفع ــ القيامة فى المفهوم المسيحى ــ إلى السماء حتى وإن تباينت مع المسيحية فى بعض التفاصيل الخاصة بحادثة الصلب والموت، وكذلك فإن هناك اعتقادا إسلاميا بعودة المسيح. وأما من حيث كونها إكمالا، فقد حرص الإسلام على التأكيد على كونه رسالة مكملة للرسالات الإبراهيمية وأنه أيضا رسالة خاتمة فانقطع من بعدها الوحى.
هذا هو البعد الدينى والعقيدى الجديد الذى أتت به الرسالة الإسلامية، لكن كانت هناك بعض الأبعاد الاجتماعية أيضا فى بداية الدعوة، فبالإضافة إلى مفهوم الوحدانية والتأكيد على عودة البشر إلى الله من أجل الحساب فى اليوم الآخر، وعلى الوضعية الخاصة للرسول، فقد كلفت الرسالة المسلم بالدعوة إلى الله باعتباره واجبا دينيا وكذلك أكدت على بعد التكافل الاجتماعى عن طريق تكليف الغنى بمساعدة الفقير.
بيد أنه وبعد سنوات قليلة من بداية المجاهرة بالدعوة، فقد ظهر سريعا البعد الأشمل للرسالة الإسلامية بالتركيز على بعض القيم المرتبطة بأبعاد سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية لمجتمع مرجو رسمته الدعوى الإسلامية فى أيامها الأولى، فقد رسمت نظاما قانونيا أساسه «العدل» ونظاما اقتصاديا أساسه «عدم الاستغلال» ونظاما اجتماعيا قائما على «التكافل» ونظاما سياسيا قائما على «القوة«و «العهد» و«التعددية». وهكذا فقد وازنت الرسالة الإسلامية بين تفهم ظروف البيئة التى نزلت بها، وبين الرغبة فى التصحيح والتغيير من خلال طرح قيم جديدة أثارت اعتراضات ورفض وجهاء المجتمع العربى وقتها ودفعتهم لمحاربة الرسالة وهو أمر متوقع من الناحية المنطقية على الأقل، فقد كانت الرسالة الإسلامية دعوة مباشرة ــ حتى وإن كانت هادئة وتدريجية ــ للتغير وإقامة نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة.
***
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة هى بمثابة التحول التكتيكى الأهم فى التاريخ السياسى للمسلمين، فمن ناحية كان قرارا براجماتيا لتجنب ضياع الرسالة والحفاظ عليها والوقوف فى وجه قوى أكبر مع قوة المسلمين فى ذلك الوقت، ومن ناحية فقد كان قرارا سياسيا سهل كثيرا من عملية وحدة المسلمين والتآلف بينهم، ومن ناحية ثالثة كان قرارا استراتيجيا لأنه ساهم فى انفتاح الرسالة الإسلامية على الديانات والقبائل الأخرى التى قبلت بالمعاهدة (دستور المدينة) فبدأت تجربة سياسية توافقية أشبه بالاتحاد الفيدرالى فى العصر الحديث، تم تنظيم أمور الدفاع والقضاء والسياسية والاقتصاد فيها. وهكذا فإن أول تجربة لإقامة كيان سياسى له طابع إسلامى، تجربة تعددية توافقية وهو ما يمكن تقريبه لفكرة الليبراليةــمع علم الكاتب التام بفارق المحتوى نتيجة لفارق المدى الزمنى.
أصبحت الدعوى الإسلامية أكثر قوة وصلابة ووحدة خلال سنوات قليلة أثبت فيها الرسول مهاراته السياسية وتمكن من تثبيت الدعوى اجتماعيا وسياسيا حتى نقضت قريش العهد فكان التوقيت المناسب للعودة إلى مكة وتحقيق انتصار حربي وسياسي كان بمثابة الإعلان الرسمى عن بداية إمبراطورية كبيرة تفوقت بعد سنوات على الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية.
كانت معظم الغزوات الحربية فى بداية عهد الإسلام دفاعية ثم تحولت بالتدريج إلى هجومية وكان هذا هو المعيار الوحيد للقوة والسيطرة فى ذلك العهد، وهنا كان الرسول حاضرا كقائد وزعيم سياسى وحربى بالأساس بجانب كونه القائد الدينى، فبدأ الإسلام يجذب المزيد من التابعين، المهمشين والفقراء والأجانب، وجهاء القبائل وسادتها، أبناء وأخوات التجار فى الجزيرة العربية.
فى خلال عقود قليلة نجحت الرسالة الإسلامية فى تحقيق الكثير من المكاسب، فقد تمكنت أولا من جذب الكثير من العرب إليها، بعضهم تخلص من التهميش وحصل على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التى كان محروما منها، وبعضهم وجد فى الإسلام ورسالته فرصة للارتقاء السياسى، لكن لا يشك المؤرخون أبدا فى أن السبب الأول والأهم فى الإيمان بالرسالة هو تصديقها وتصديق رسولها. ثم أنها ثانيا صنعت هوية جديدة للعرب تمكنت من تحدى الهويات القبلية والعشائرية مما ساهم لاحقا فى صنع حضارة كبيرة ومؤثرة سيطرت على نصف العالم القديم، كما أنها ثالثا وضعت الإسلام على طريق العالمية، باعتباره رسالة للناس جميعا تهدف للإخاء بينهم بغض النظر عن أجناسهم وأنسابهم وألوانهم.
لكن بعد وفاة الرسول كان الاختبار الحقيقى للبعد السياسى للإسلام، مات الرسول، القائد الدينى والزعيم السياسى، مات رسولا لم يصنع الأساطير حول نفسه، ولد بشرا، عاش بشرا، ومات بشرا، فماذا يفعل المسلمون من بعده؟ هذا ما أتناوله في المقالة القادمة.
***
ملحوظة: يعتمد الكاتب بالأساس على قراءة التاريخ الإسلامى من أكثر من مصدر ولعل أهمها:
ــ تاريخ كامبردج للإسلام (الجزء الأول)، المحرر بواسطة بى أم هولت وآخرين، عن دار نشر جامعة كامبردج، ٢٠٠٨.
ــ تاريخ الانقسام السنى الشيعى، المحرر بواسطة تشارلز ريفر وجيسى هراستا، عن دار تشارلز ريفير عام ٢٠١٤.
ــ الإسلام: الدين، التاريخ، والحضارة لسيد حسين نصر، الصادر عن هاربر كولنز للكتب الإلكترونية، (مجهول تاريخ النشر).
وقد يستعين الكاتب بمصادر أخرى سيشير إليها فى حينه.
أستاذ مساعد العلاقات الدولية الزائر، جامعة دنفر