الملطشة
محمد سعد عبدالحفيظ
آخر تحديث:
السبت 19 يناير 2019 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
دخل أمير الساخرين الكاتب الراحل محمود السعدنى، الصحافة منتصف أربعينيات القرن الماضى، باعتبارها «صاحبة جلالة ولها بلاط، وأنها حفلات ورحلات، ونجم صحفى مشهور يكتب وهو جالس على كرسى فى مقهى أنيق فى الشانزلزيه، ونسوان كما القشطة الصابحة تعاكسه وتباكسه وتجرى وراءه، وزعماء يستيقظون فى الليل على هدير صوته، ووزارات تسقط تحت هول كلماته، وعدل يقوم وظلم يندك بفضل توجيهاته وتعليماته».
استمد السعدنى تلك الصورة للصحافة من سيرة الأستاذ محمد التابعى، الذى هز بمقالاته قصور الحكم، فرفع أقواما وخسف الأرض بآخرين، ولما تطاول الرقيب يوما وحذف ثلاث فقرات من تقرير للمحرر الناشئ إبراهيم الوردانى الذى كان يعمل معه فى «آخر ساعة»، اصطحبه التابعى إلى مكتب وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين.. وركل باب الوزير بحذائه ليفتح الباب فيصب الصحفى الكبير جام غضبه على الباشا ورجاله.. وينطلق فى وجهه معنفا ومزمجرا، يطالبه بالرفت الفورى للرقيب الوقح، فما كان من الوزير إلا أن يعتذر لأمير الصحافة ويسترضيه «اهدأ يا محمد.. روق يا تابعى.. نرفت لك الرقابة كلها يا سيدى بل تعتذر لك أجهزة الحكم كلها».
ورغم مرارة رحلة السعدنى فى بلاط صاحبة الجلالة، من رفت وسجن ونفى وبهدلة فى بلاد الله لخلق الله، إلا أنه اقترب من الصورة التى رسمها للصحافة فى بداياته، فمجلس الرجل فى نادى الصحفيين على كورنيش الجيزة تحول بعد عودته إلى مصر مطلع الثمانينيات إلى مجلس للوزراء والنواب وكبارات البلد فى السياسة والصحافة والفن والأدب، وصار الصحفى الساخر عمدة يشد إليه الرحال ويحسب له ألف حساب.
كان للصحافة وحتى فى أحلك العصور وأكثرها تشددا وعصفا بالحريات «شنة ورنة»، كان للصحفيين هيبة وسلطة استمدوها من اتفاق غير مكتوب بينهم وبين الناس، تقضى بنوده بأن ينقل الصحفيون ما يجرى ويدور فى كواليس السلطة ونبش الدفاتر وفضح المستور، وإعلام الجمهور بالسلبيات قبل الإيجابيات لتقويم أى انحراف، مقابل الثقة والحصانة الجماهيرية.
فى السنوات الأخيرة، نُزع عن صاحبة الجلالة سلطانها عنوة، وحوصرت مقاراتها وقوض استقلالها، وحبس بعض أبنائها وشرد البعض الآخر فى الشوارع، ونزل على السواد الأعظم منهم سهم الله.. ضربت عليهم الذلة والمسكنة فباءوا بغضب من الناس ومن الله ذلك بأنهم قبلوا الدنية فى مهنتهم، وتحولوا إلى أدوات للحكومة بعد أن كانوا عينا للشعب.. وحجبوا عن جمهورهم الحقيقة فأصبحوا هشيما تذروه رياح السلطة فى كل اتجاه.
لا يمر يوم من هذه الأيام الغبراء، دون أن نتناقل رواية للاعتداء على صحفى، مرة من مسئول فى الجمارك ثار على صحفية تمارس عملها فى نقل ما يجرى، وأخرى من حراس رئيس نادٍ ونائب برلمانى يتعجب رئيسه من تعدد طلبات رفع الحصانة عنه حتى أنها وصلت إلى 33 طلبا، وثالثة من «بودى جاردات» نقيب سجن على ذمة قضية أخرى فقط لأنه ليس له ظهر كما تردد، وأخيرا من المحافظ الذى طرد زميلين كانا يمارسان حقهما القانونى فى تغطية نشاط محافظته، ودفعهما أمام الناس.
تناسى كل هؤلاء أن مواد الدستور والقانون أعطت للصحفى الحق فى تلقى إجابة على ما يستفسر عنه، وحضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات العامة، وإجراء اللقاءات مع المواطنين، وأن الجهات الحكومية والعامة ملتزمة بتمكين الصحفى من الحصول على المعلومات والبيانات والأخبار.
أشك أن أحدا من هؤلاء يجهل مواد القانون والدستور، لكنها الاستهانة التى فرضها الواقع السياسى، والاستهتار بمهنة الحقيقة ممن يصرون على إخفاء الحقائق، فعداء بعض رموز الحكومة للصحافة والإعلام أصبح من المعلوم بالضرورة، ظهر ذلك جليا من تصريحاتهم عن تلك المهنة التى أريد بها أن تصبح مسخا حتى لا يسمع منها ويفقد الجمهور الثقة فيها.
«القبضة الحديدية لا تخنق الكلمة الحرة، والقهر باسم القانون أو من خارج سلطة القانون لا يقضى على حرية الصحافة، والاتهامات والمحاكمات والعقوبات لن توقف المطالبة بالحقوق والحريات ولن تستطيع إسباغ التقديس على ما هو غير مقدس ولا إضفاء التحريم على ما هو غير محرم». رحم الله الصحفى الكبير صلاح الدين حافظ الذى نعى قبل وفاته بشهور عام 2008، حال المهنة التى تربص بها المتربصون، ومورست ضدها كل صنوف الوصاية والحسبة.