عالَم كريم يونس
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 19 يناير 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
في رسالة من كريم يونس- الأسير الفلسطيني الذي قضى أربعين سنةً كاملة داخل سجون الاحتلال- كتبها قبيل الإفراج عنه- قال "سأترك زنزانتي، بعد أيام قليلة، والرهبة تجتاحني باقتراب عالَم لا يشبه عالَمي، وها أنا أقترب من لحظة لابد لي فيها أن أمرّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم أو بالخذلان، ودون أن أضطر لأن أبرهن البديهي الذي عشته وعايشته على مدار أربعين عامًا، علّني أستطيع أن أتأقلم مع مرآتي الجديدة". قلمك حلو يا كريم، حلو جدًا، قليل من المهندسين هو القادر على أن يكتب بهذا الحّس المرهف فيصهر أفئدتنا صَهرًا، وقد فعلْتَ بنا ذلك. أقرأ رسالتك فأبحث عن صورتك القديمة كما كانت تعكسها مرآتك القديمة في أول يوم أُسِرْتَ فيه، وأضعها بجوار صورتك الجديدة كما تعكسها الآن مرآتك الجديدة وأنت تتنسّم أولى نسمات الحرية، وأقارن وأكتشف الفارق بين المرآتين والصورتين لك ولي أيضًا، نعم لي أنا أيضًا، فنحن تقريبًا من عمر واحد وكلنا نكبر يا كريم. أفهمك تمامًا وأنت تشعر بالغربة عن عالَم لا يشبهك، لكن مَن قال لك إننا الذين عايشنا انتقال العالَم من ألفية لأخرى نعتبر أن هذا العالَم يشبهنا فعلًا؟ أنت غريب وأكثرنا أيضًا غريب يا كريم. ومع ذلك فالغربة بالتأكيد لها درجات، فبعد أربعين عامًا قضيتَها خلف الأسوار صارت كثيرة جدًا هي الأشياء التي تُدهشك. أتعرف؟ لقد أبكيتني وأنت تستغرب ملمس الجلد يكسو مقعد السيارة التي أقلّتك من حيث ألقاك المحتّل بكل جلافة على قارعة الطريق فإذا بعشرات الأذرع والأكتاف والأحضان تهفو لمصافحتك ورفعِك وضمّك واحتضانِك حدّ الاعتصار. دهشتُك من ملمس جلد السيارة بسيطة جدًا وحقيقية جدًا فعلى مدار كل تلك السنين وكل هذا العمر في صحبة البلاط والحديد والأسمنت نسيتَ ملمس الجلد. يا الله! لقد شغلَتنا الأسئلة الكبرى التي كنّا نعّدها لنلقيها عليك حول شعورك وأنت تلتقي أطفال العائلة الذين وُلدوا في غيابك وكبروا في غيابك، حول حكومة نتنياهو وخطتك للعمل من أجل فلسطين حرًا كما عملتَ لها في أسرِك، فإذا بدهشتك من تفاصيل التفاصيل ومن ملمس الجِلد الأملس تدهشنا وتطرح علينا أسئلة شديدة البدائية والبديهية أيضًا، صحيح الغربة درجات يا كريم.
• • •
أعود لأقرأ في رسالتك البليغة "ها أنا أوشك أن أغادر زنزانتي المظلمة، التي تعلّمت فيها أن لا أخشى الظلام، وفيها تعلّمت أن لا أشعر بالغربة أو بالوحدة، لأنني بين إخوتي، إخوة القيد والمعاناة..". لا لا لا.. لا تقل لي يا كريم أنك كنتَ تخشى الظلام قبل أن يأسروك ويصاحبك الظلام الدامس في سجنك الأربعيني الطويل جدًا، فالفدائي الذي لا يخشى الموت مستحيل أن يخشى الظلام. أنا واثقة من أن الظلام كان يلهمك ويطلق خيالك ويحوّل زنزانتك إلى قاعة سينما مطفأة الأضواء استعدادًا لعرض فيلم جديد. ومع ذلك يوجد فارق ليس قليلًا بين خيالك وأفلام السينما، ففيلم السينما له بداية ونهاية محددتان، أما أفلام زنزانتك فأنت الذي كنت تتحكّم في أوّلها وآخرها، وأنت وحدك كنتَ القادر على أن توقف آلة العرض لتغفو أو تصلّي أو تبكي أو تأكل، فإذا ما أصبحتَ جاهزًا أعدتَ التشغيل. أتوقع أن الظلام قد أخذك كثيرًا إلى مدارج الطفولة والصبا في بلدتك، وطاف بك في مدرّجات جامعتك، وأنك لابد قد توقّفت مرارًا وتكرارًا عند اللحظة إياها حين انقّض عليك جنود الاحتلال في أحد صباحات كانون ثان عام ١٩٨٣ وأنت في مختبر كليتك وقيّدوك ثم زجّوا بك خلف الأسوار سنين عددًا. نعم ربما حدث هذا، لكني أتصوّر أيضًا أن لُوَحًا أخرى جميلة قد ظهرت على شاشة عرضك، إن أنتَ شردتَ في عائلة يونس وهي تزداد أكثر فأكثر فتزداد معها الحكايات التي تحتاج منك أن تعطيها انتباهك وحِكمتك، وأن تصيخ السمع لأصحابها. أنت لم تخش الظلام لا قبل السجن ولا بعد السجن، ربما تكون قد اعتدتَ علي الظلام بمرور الزمن أفهم هذا، لكني أعدَك أنك من الآن فصاعدًا ستحب النور وشمس الصباح وضيّ القناديل وبصيص الشموع. أما عن وَنَسِك في وجود أصحاب الأسْر ورفاق الزنازين فهو صحيح، وسأكلمك عنه حالًا.
• • •
أقرأ في رسالتك "أغادر زنزانتي، ولطالما تمنيتُ أن أغادرها منتزعًا حريتي برفقة إخوة الدرب، ورفاق النضال، متخيّلًا استقبالًا يعبّر عن نصر وإنجاز كبير، لكني أجد نفسي غير راغب، أحاول أن أتجنب آلام الفراق، ومعاناة لحظات الوداع لإخوة ظننتُ أني سأكمل العمرَ بصحبتهم". واضحةٌ لنا تمامًا يا كريم بلبلة مشاعرك النبيلة وأنت توشك أن تخرج للضوء تاركًا رفاق الأَسر من خلفك، فالعِشرة تصنع الذكريات ولكل الذكريات حنينها حتى وإن كانت ذكريات أَسر في سجون الاحتلال. لكن دعني ألفت انتباهك إلى نصف الكوب الملآن، فها هو ماهر صديق عمرك يجهّز نفسه للخروج واللحاق بك، وغدًا تجلسان معًا على المقهى تحتسيان القهوة الفلسطينية الطيبة، هل مازلتَ تذكر مذاق البن الفلسطيني؟ ستكون فرصة لتتذكّرا معًا طعمه، فلن تسبق صديقك إلى تذوّقه بوقت كبير، فهو آت إليك عمّا قريب. كما أن مروان البرغوثي سيخرج في يوم ما هو الآخر، وستتذكران أيامًا قضيتماها معًا في بعض السجون الثمانية التي نقلّك بينها سجّانوك هوسًا منهم بثقافة الاستيطان، هل تبدو مقارنتي تنقلاتك بين السجون وثقافة الاستيطان غريبة شيئًا ما؟ ربما وسأشرح نفسي. يخشى سجّانوك أن تظّل طويلًا في سجن واحد لئلا تنشأ لك عِزوة وتكون لك فيه جذور، مهووسون هم باقتلاع جذور الفلسطينيين حيثما كانوا لا يدرون أن جذورهم بعيدة وعميقة إلى حيث لا يمكن أن تصل لها أنياب جرّافاتهم. أتعرف يا كريم؟ يوجد شبهٌ كبير بينك وبين مروان البرغوثي، ليس شبهًا في الشكل لكن في المضمون، إنه شبهٌ في صلابة الشخصية، وشبهٌ في مركزية الدور داخل حركة النضال الفلسطيني، وشبهٌ في أنكما حولتما سنوات عمركما داخل السجن إلى طاقة هائلة للتعّلم فحصل هو على الدكتوراه وحصلتَ أنت على الماچستير. والآن وأنا آتي على ذكر هذا الأمر تعود بي الذاكرة إلى عام ٢٠١٠ عندما حصل مروان البرغوثي على درجة الدكتوراه من معهد البحوث والدراسات العربية وكان مدير المعهد وقتها والمشرف أيضًا على رسالة مروان أستاذًا عروبيًا بامتياز هو الدكتور أحمد يوسف أحمد. سأل الرجل واستشار واتصل وضغَط من أجل حق مروان في مناقشة رسالته وهو خلف الأسوار، وأخيرًا تحقّق الأمل، وكل أمل يصّر عليه صاحبه يتحقق. قدّم الدكتور محمد الحزماوي الأستاذ بجامعة القدس عرضًا لرسالة مروان نيابةً عنه، وتشكّلت لجنة المناقشة من الدكتورين يحيي الجمل وعلي الجرباوي.. وأنا، وكانت لحظة النّطق بالحكم على رسالة مروان كأنها نُطق بحريته. الحرية مثلها مثل الغربة لها أيضًا درجات. ويومًا ما سيلحق بك مروان وسيكتمل تحريره، أولستم تقولون في فلسطين "باب السجن بسكّرش على حدا"؟ فلنؤمن إذن أن السجن لن يدوم وإن طال وأن باب السجن لن يظّل مقفولًا إلى الأبد.
• • •
وأقرأ أيضًا في رسالتك ما يثير دهشتي "سأترك زنزانتي، رافعًا قبعتّي لجيل لا شك أنه لا يشبه جيلي، جيل من الشباب الناشط والناشطات الذين يتصّدرون المشهد في السنوات الأخيرة، جيل من الواضح أنهم أقوى وأجرأ، وأشجع، والأجدر باستلام الراية، كيف لا وهم المطّلعون على الحكاية، والحافظون لكل الرواية، والحريصون على تنفيذ الوصايا، وصايا شعبنا المشتّت المشرّد، بانتزاع حقه بالعودة وتقرير المصير..". من أين جئتَ بمفهوم الناشط والناشطات يا كريم؟ هذا مفهومٌ جديد لم يعتّد عليه جيلك/جيلي عند الحديث عن رموز الحركة الوطنية، فعلى أيامنا وفي عالَمنا كنّا نقول مناضلًا ومناضلات، وكنّا نسمّي المقاتلين فدائيين لا مجاهدين، الآن اختلف القاموس، وهذا جزء من العالَم الذي لم يعد يشبهك/يشبهني. أتعرف ما الذي لفت نظري بالتحديد وأنت تستخدم مفهوم ناشط وناشطات؟ لفت نظري أنه يعنى وجودك على الخط مع كل ما يدور خارج أسوار سجنك. بالطبع لم يكن يساورني شك في أنك بصير بالجديد في مجال السياسة والسياسيين، فالسياسة هي خبز الفلسطيني وطبيعته الثانية، ولن يجد أحد فلسطينيًا غير مسيّس من الطفل إلى الكهل، لكن استخدامك المفهوم يعني ببساطة أنك مطلّع على أدّق أدّق التفاصيل، فقل لي بربك من أين كان يأتيك الظلام في زنزانتك بالضبط؟
• • •
أشاهد ڤيديوهات الفرحة باستقبالك يا كريم فيزغرد قلبي ويشارك بما يتيّسر له في أجواء الاحتفال. تتداخل روائح الشواء والبخور والبارود فتصنع سحابة طيّبة تظلّل أبناء بلدتك .. بلدة عارة.. وتحميهم من أمطار محتملة إلى أن يتمّوا احتفالهم، وإن تكن الأمطار بُشرة خير. تغيب وجوه محبّبة عن السامر وصلنا جميعًا شوقك إليها لكن تظهر بكثافة وجوه أخرى تشتاق إليك، وتلك سُنّة الحياة. ستعتاد ملمسَ الجلد وخضرةَ العشب ونورَ ربنا وتتذكّر طَعمَ الزيتون وطَعمَ زيت الزيتون. ستعمّر بيتك لتحقّق أمنيةَ أمك الحاجة صبحية في أن تكون لك زوجة ويكون عندك بنون وبنات بإذن الله. مبارَكَةٌ عليك حريتك الغالية جدًا يا كريم، وأهلًا بك في عالَمك الجديد.. هذا العالَم الذي يندُر أن نجد فيه تجربة تشبه تجربتك.