اليوم التالي.. الآن!

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 19 يناير 2025 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

يطرح سؤال اليوم التالى نفسه مجددًا فى أحوال وأجواء مختلفة عما كانت عليه قبل الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن.

انطوى الاحتفاء الشعبى الواسع والتلقائى فى شوارع غزة على رسالة سياسية يصعب تجاهل آثارها وتداعياتها، أن إرادة المقاومة تحت أسوأ حروب الإبادة والتجويع أقوى من توحش القوة. ثبت فى الميدان أن هزيمة إسرائيل ممكنة. كان ذلك نوعًا من النصر.

فى الوقت نفسه بدت الدولة العبرية كمن تنفس الصعداء أخيرًا. أيدت نسبة كبيرة من الرأى العام الإسرائيلى الاتفاق، رغم أنه ينص على تراجعات جوهرية تنسف تمامًا وعود رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بالنصر المطلق! بات مصيره هو نفسه معلقًا على حسابات وتوازنات لا يمكنه التحكم فيها.

لم ينجح فى تحقيق أى من أهداف الحرب، التى امتدت لـ(15) شهرًا، المعلنة وغير المعلنة. لا قوض «حماس»، ولا نجح فى استعادة الأسرى والرهائن بالعمل العسكرى لم يعد بوسعه أى حديث مرة أخرى عن إعادة احتلال غزة وفرض حكم عسكرى عليها.

كان ذلك نوعًا من الهزيمة. يكاد يستحيل أن يتراجع عن الاتفاق، حتى لو انسحبت أحزاب اليمين المتطرف من الائتلاف الحاكم وانهارت حكومته، فالكلفة السياسية لا يمكن تحملها بالصدام المباشر مع الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب بأول أيامه فى البيت الأبيض.

إذا التزم بالاتفاق فهو فى أزمة عميقة قد تكلفه منصبه وخضوعه للتحقيق عن مسئوليته عما جرى فى السابع من أكتوبر، وإذا نقضه بذريعة أو أخرى فإن إسرائيل كلها قد تدخل فى أزمة وجودية وصدامات محتملة على كل المستويات.

ما الذى يمكن أن يحدث فعلًا فى اليوم التالى؟ فى مايو (2024) قدم الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن مشروعًا لاتفاق زعم أنه إسرائيلى، لكن «نتنياهو» لم يؤيده أو يؤكد انتسابه إليه. لا يختلف مشروع بايدن فى جوهره مع الاتفاق الذى تم إقراره.

كان ذلك الاتفاق المجهض جزءًا من تصور أوسع لليوم التالى من ترتيبات وإجراءات سياسية وأمنية للسيطرة على القطاع بعد وقف إطلاق النار.

لا يوجد الآن مثل هذا التصور الواسع. لم يكن «نتنياهو» مستعدًا لأى نقاش جدى عن أية ترتيبات قبل اجتثاث «حماس» وتحقيق كامل أهدافه من الحرب. ولم يبدِ أدنى تقبل لإسناد أى دور أمنى وسياسى للسلطة الفلسطينية فى غزة.

غاب عنه تمامًا أى أفق سياسى، طالبًا تمديد الحرب حتى لو أشعلت المنطقة كلها بالنيران، خشية لحظة الحساب على مسئوليته عما جرى فى السابع من أكتوبر.

بالوقت نفسه راهن على أهداف شبه معلنة كالتجهير القسرى من غزة إلى سيناء، والاستيلاء على الغاز، أو إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط لبناء نظام إقليمى جديد تقوده إسرائيل. كل ذلك سقط تمامًا.

بتوصيف هزلى أطلقه وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن لنتائج الحرب فإن إسرائيل حققت كل أهدافها الاستراتيجية!

كان ذلك تعسفًا فى قراءة المشهد وتجاهلًا للمأساة الإنسانية، التى استدعت غضبًا غير مسبوق فى جامعات النخبة الأمريكية منذ حرب فيتنام ستينيات القرن الماضى.

بأثر الهزيمة الأخلاقية التى لحقت بصورة إسرائيل جرت ملاحقتها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، كما استصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتى توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه المُقال يوآف جالانت.

أراد بلينكن أن يؤكد انحيازه شبه المطلق لإسرائيل وأهدافها الاستراتيجية من الحرب، وأن يصور إدارة بايدن بالوقت نفسه كقوة سلام نجحت أخيرًا قبل مغادرة البيت الأبيض فى وضع حد لأكثر الحروب وحشية فى التاريخ الحديث.

لماذا الآن؟ كان ذلك سؤالًا ملحًا عقب إعلان التوصل إلى الاتفاق. سُئل «بايدن» بعد أن ألقى بيانًا فى مؤتمر بالبيت الأبيض: من ينبغى أن نشكره، أنت أم ترامب؟! أجاب، وهو يغادر: «هل هذه نكتة؟!».

الحقيقة التى يعرفها العالم كله أنه شارك فى إغلاق الملف الدموى، الذى يستحق المثول بسببه أمام جهات العدالة الدولية، إذا كانت هناك عدالة فى هذا العالم.

بدا «ترامب» حازمًا وقويًا على عكس «بايدن»، الذى فعل لإسرائيل ما لم يفعله رئيس أمريكى آخر لمنع أى انهيار محتمل إثر السابع من أكتوبر. فى نهاية المطاف لم يجد مجرم الحرب «بايدن» من يشكره!

كان الهدف الرئيسى من المساعدات العسكرية الأمريكية، التى تدفقت بمعدلات غير مسبوقة على إسرائيل، تمكينها من الانتقام بأقوى قوة ردع حتى لا يرتفع رأس فى فلسطين يدعو للمقاومة، أو يطالب بأية حقوق مشروعة فى تقرير مصير شعبه. الفلسطينيون حاربوا أمريكا قبل إسرائيل. هذه هى الحقيقة الكبرى التى ينبغى ألا تغيب فى أى نظر لليوم التالى.

عقيدة «بايدن» تختلف عن عقيدة «ترامب». الأول، يميل إلى العسكرة المفرطة، على ما حدث فعلًا فى حربى أوكرانيا وغزة. والثانى، رجل صفقات، وسؤاله الرئيسى دومًا: ما الثمن؟

توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، تحد أول على أجندة «ترامب». موضوع التحدى: مقابل ماذا؟ لا توجد أدنى إجابة قادرة على تلبية الحقائق الجديدة بعد السابع من أكتوبر. العودة إلى صفقة القرن فشل مسبق، فجوهرها تلخيص القضية الفلسطينية فى المساعدات الإنسانية وإلغاء طابعها كقضية تحرر وطنى ثم إنه يعارض حل الدولتين. ما البديل؟ لا يقول شيئًا.

التحدى الثانى، ملف الاستيطان وسيناريوهات فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية ماثلة، وهو تحدٍ آخر يفضى إلى انفجار مدوٍّ فى أرجاء الأراضى الفلسطينية المحتلة.

التحدى الثالث، العقدة الإيرانية، التى يصعب تجاوزها بالتهديدات العسكرية وحدها. لن يذهب «ترامب» إلى الحرب معها، لكنه لن يحاول حلحلة الأزمة من جذورها.

هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحًا فى اليوم التالى ربما تميل إدارته إلى تخفيض التوتر فى الشرق الأوسط، لكنها لا تمتلك أية خطة استراتيجية واضحة ومحكمة.

التحدى الرابع، الوضع السياسى الداخلى الفلسطينى، أو مستقبل السلطة فى اليوم التالى وسط أجواء محمومة داخلها ضد إسناد أية أدوار لـ«حماس» فى القطاع ومطاردات لجماعات المقاومة فى الضفة الغربية. المعادلة يصعب تجاوزها بسهولة، السلطة فقدت شرعيتها و«حماس» محاصرة.

أخطر ما قد يحدث فى اليوم التالى أن تحصد إسرائيل بالتخاذل العربى والانقسام الفلسطينى ما لم تحصده بالحرب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved