من وحى الثورة: الحاجة إلى نقد الذات
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 19 فبراير 2011 - 9:42 ص
بتوقيت القاهرة
فى الوقت الذى ننحنى فيه إجلالا لشباب ثورة 25 يناير، فإننا، نحن الذين تجاوزناهم فى العمر، ندين لهم بالاعتذار. نعتذر عن نظرتنا الخاطئة السابقة نحوهم، وعلينا أن نخضع أنفسنا لعملية صادقة من النقد الذاتى. تصورنا مع الأسف لفترة طويلة أن الشباب من أولادنا وبناتنا وأحفادنا هم شباب قُنَّع، ليس له فى الشأن العام ناقة ولا جمل، فإذا بنا نكتشف خلال أيام قليلة أنهم شباب لا يرضى بالضيم، وفيه الخير كل الخير.
تصورنا أنه لا رغبة لديه ولا قدرة على الدرس والتحصيل كما صورته لنا «مدرسة المشاغبين»، فإذا بنا نكتشف فداحة ما وقعنا فيه من خطأ، فقد تجاوزنا فعلا هؤلاء الشبان سواء فى قدرتهم على التواصل، أو فى إمكاناتهم فى التنظيم وتوحيد الصف. من الذى أنبت فيه كل تلك الشجاعة، وذلك الأقدام، والاستعداد للتضحية، حتى سقط منهم المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى والمصابين الذين لم ترهبهم قوات الأمن المركزى ولا هجوم رعاة البقر بالميدان، ولا الطائرات F16 التى انقضت من فوق رءوسهم فى وضع هجومى فى محاولة بائسة لاستعراض القوة وبث الذعر.
وكيف تحلوا بهذه الروح من الإصدار ومن التحدى؟ ومن الذى علمهم أن يفترشوا الأرض، ويسهروا الليالى، ويقتاتون على التمر؟ وكيف غلبت عليهم هذه الروح من الأخوة والألفة والتضامن فتوارت النعرات، وذابت الفوارق، ونُحيت جانبا المذاهب، وصاروا جميعا كالبنيان المرصوص، يشد بعضه أزر بعض؟ فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.
انظر كيف تضامنت معهم كل طوائف الشعب ومن كل أعماره، يضمّدون جراحهم ويمدوهم بالنذر اليسير من حاجياتهم، ثم انظر كيف استطاع هؤلاء الشبان تقسيم العمل والمهام فيما بينهم، فإذا ببعضهم يتوجه مساء كى يحموا أحياءهم، أو يسهروا للحفاظ على مساكنهم، بينما يبقى البعض الآخر فى مكانه ليحمى قلعة نضالهم بالميدان، أو ينتظم فى حائط بشرى لحماية تراثه، بل تراث البشرية كلها، على مشارف هذا الميدان. وتأمّل كيف عكف البعض على أن يحافظ على الميدان نظيفا، ومنظما، على الرغم من ذلك الحشد من الألوف، المألفة فيه. ثم شاهد كيف تقاطر الجمع عليهم من كل فج عميق كى يسطّروا جميعا ملحمة ندر أن يجود بمثلها الزمان. حضر الأساتذة والصحفيون والنقابيون والمفكرون والقضاة والمهنيون، وبالتوازى تحرك العمال والموظفون. كل يريد أن يشارك ويساهم فى تشكل واقع جديد.
صحيح أن هذه الثورة سبقتها إرهاصات عدة، وحركات عبرت عن آرائها ومواقفها بالهتاف تارة، وبالصمت البليغ تارة أخرى. كان هناك الكثير من الأصوات المخلصة، والأقلام الشريفة، والصحف الجسورة التى فضحت الفساد ما استطاعت على ذلك سبيلا، واستنهضت الهمم. وتعرض أصحاب هذه الأقلام للفتك والسحل على أيدى حملة المباخر والزبانية. ضلَّ هؤلاء وأضلوا، وفسدوا وأفسدوا الآخرين أو حاولوا.
نحمد الله أن الغمة قد زالت، وأن الروح قد عادت إلينا بعد أن كادت تزهق. الروح نفسها التى كانت المحرك لنصر أكتوبر المجيد وظلت معنا عقودا من الزمن. والآن ندعو الله أن يتمكن الشعب، بعد أن استرد حريته، أن يسترد ثرواته التى نهبت، وأمواله التى سرقت، كى يعيش العيشة الكريمة التى يستحقها.
من منا لم يلحظ تلك البسمة التى علت كل وجه نصادفه؟ وذلك السلوك الحضارى لكل من تعاملنا معه خلال الأيام الماضية؟
تضامن الجيش مع الشعب، وقام بحمايته. هو الجيش نفسه الذى فجّر ثورة 23 يوليو، وهو الذى تصدى للعدوان الثلاثى، وخاض حرب الاستنزاف، ثم حرب التحرير عام 1973. أخذ الجيش على عاتقه أن يضع البلاد على أعتاب فجر جديد.
وينتقل بها، من خلال فترة انتقالية محدودة، إلى حكم مدنى رشيد قوامه الحرية، والديمقراطية، والتمثيل الشريف الصادق. حكم قائم على التعددية ومتمسك بتداول السلطة ولا مكان فيه للفساد أو الفاسدين.
وكما سقطت الكثير من الشعارات الزائفة فى الداخل، تبددت الكثير من الأفكار الخاطئة عن الخارج التى حملنا حملا على تصديقها، فخرجت الشعوب من شرق العالم العربى إلى غربه فرحة مهللة بنجاح ثورة شعب مصر، وظهر مدى حب هذه الشعوب وتقديرها لوطننا العزيز الذى حجبه عنها الكثير من الأكاذيب والافتراءات، والآن عادت مصر إلى حضن عالمها العربى أو عاد هو إلى حضنها، لا يهم.
وأخيرا، انظر كيف احتلت أنباء الثورة مكان الصدارة وطغت على ما عداها من أنباء العالم الأخرى على اتساعه، كل يحاول تقييم ما حدث ويستشف علاقته مع مصر الحرة. ألا يعطينا كل هذا، الثقة فى أن مصر ظلت فى القلب وفى العقل على الدوام، حتى وإن اعتراها الخسوف لفترة من الوقت.
أما الدرس المستفاد من كل ذلك فهو أن قوة مصر فى الخارج هى الانعكاس الحقيقى لقوتها فى الداخل.